هل عجّلت باريس بانتخابات الرئاسة في الجزائر؟
شكَّل القرار نصف مفاجأة. النصف الآخر كان سرا معلوما.
يتمثل السر المعلوم (جانب اللامفاجأة) في كون تبون سيترشح لولاية ثانية وسينالها بسهولة مثلما نالها الذين سبقوه في استفتاءات تزكية أكثر منها انتخابات. هناك أسباب عدّة للجزم بأن تبون مقبل بحماس على ولاية ثانية، منها أن وسائل الإعلام الجزائرية، حكومية وخاصة، والمنصات الموالية للرجل تدق منذ شهور طبول ترشحه وتروّج بقوة لـ«إنجازاته» وخططه المقبلة.
لا تفسير لهذا التسخين سوى أنه حملة انتخابية سابقة لأوانها لولاية رئاسية ثانية.
إلى جانب الإعلام لم تتأخر الأحزاب السياسية (ذاتها التي سارعت للترويج لبوتفليقة وقبله زروال والتطبيل لـ«إنجازاتهما التاريخية») إلى الإشادة بالقرار «الحكيم» الذي اتخذه تبون والالتزام بأنها ستفعل ما بوسعها لإنجاح «العرس الديمقراطي» في السابع من أيلول (سبتمبر).
إضافة إلى أن الظروف الإقليمية تشجع أيّ حاكم على البقاء في الحكم أكثر مما تشجع على الزهد فيه والتداول على السلطة. وتبون لن يكون الاستثناء في منطقة تعجّ بالمتمسكين بكراسي القيادة إلى الموت بدواعي حفظ الاستقرار وصدِّ المؤامرات الخارجية ومواصلة مسيرة الإنجازات الكبرى.. إلخ.
وفوق كل هذا، لم يبدر من تبون ومحيطه ما يشي بأن الرجل زاهد في الحكم.
مع انتشار هذه الذهنية محليا وإقليميا، وحتى دوليا، يصبح عدم ترشح تبون لولاية رئاسية جديدة هو الاستثناء والمفاجأة التي تستحق الوقوف عندها.
ما يستحق فعلا النقاش في قرار تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، تاريخ الاقتراع وملابساته. يسبق السابعُ من أيلول (سبتمبر) المقبل الموعدَ الطبيعي والقانوني للانتخابات بحوالي ثلاثة أشهر. وبهذا لا هي انتخابات مبكرة فعلا ولا هي في موعدها القانوني.
هناك إشاراتان لا يجوز تجاهلهما في خصوص تاريخ الانتخابات: يعقب فوراً فصل الصيف وأثقاله، ويسبق بقليل زيارة تبون المقررة إلى باريس وملابساتها.
فصل الصيف في الجزائر، وخصوصا شهر آب (أغسطس) مرادف لمناخ لا يطاق واستسلام البلاد لخمول اجتماعي كبير وشلل إداري وسياسي تام. من الصعب تخيّل حملة انتخابية لاقتراع رئاسي تجري في هذا الشهر في المناطق الداخلية مثل الصحراء حيث تناهز الحرارة الخمسين درجة مئوية. أما في الشمال والساحل فإما رطوبة خانقة أو حرارة قاتلة، وأحيانا تجتمع الحرارة والرطوبة فتتحوّل الحياة إلى جحيم. من الصعب تخيّل الجزائريين يحضرون مهرجانات انتخابية أو يهتمون بأي حدث عام في مثل هذه الظروف حتى لو كانت انتخابات رئاسية مبكرة.
من الصعب أن ينجح الإعلام المحلي في إقناع الجزائريين أو إغرائهم بالمشاركة الإيجابية في انتخابات تجري في مثل هذه الظروف المناخية. علما أن العزوف الانتخابي أصبح ثقافة سياسية تتجذر سنة بعد أخرى في الجزائر.
هل تعمّد تبون ومحيطه اختيار السابع من أيلول (سبتمبر) لتمر الحملة الانتخابية والاقتراع وسط لامبالاة وملل، وبالتالي بلا مشاكل؟
بعد الاقتراع بأقل من شهر هناك زيارة رسمية (شغلت البلدين وانتُظرت طويلا) من المقرر أن يؤديها تبون إلى باريس. لو كانت الزيارة مقررة إلى جوهانسبرغ أو إسلام آباد أو أيّ عاصمة أخرى لَما اكترث أحد، لكن مع باريس يختلف الأمر. بل ليس من المبالغة التكهن بأن تاريخ الاقتراع اختير عمدا ليسبق الزيارة إلى باريس ويسهم في ضبط إيقاعها.
من المهم التذكير بأن الجزائر رفعت خلال السنوات القليلة الماضية سقف المناكفة والنديَّة مع فرنسا عاليا لأسباب بعضها وجيه وبعضها ليس كذلك. هذا السقف العالي يتبعه ثمن، وإذا جرت في غضونه زيارة رسمية فيجب أن تكون محكمة التنظيم والتفاصيل، لوجستيا وسياسيا، لا تشوبها شائبة.
الجوانب اللوجستية في متناول اليد وتحت السيطرة جزائريا، لكن الجوانب السياسية في حاجة إلى تكتيك وجهد يتضمن أن يزور تبون باريس رئيسا قويا غير منقوص. كيف؟ سيشعر تبون أنه في وضع أفضل على التفاوض مع الفرنسيين إذا زار باريس في بداية ولاية جديدة صلبة وليس في نهاية ولاية محفوفة بالشكوك والتساؤلات داخليا وخارجيا.. ماذا أنجز وماذا لم ينجز؟ هل سيترشح لولاية ثانية أم لا يترشح؟ النظام كله متوافق عليه أم لا؟ ما موقف المؤسسة الأمنية؟ ما هي نواياه تجاه المغرب؟
كانت مثل هذه الحسابات ستبدو من ضروب المبالغة لو تعلّق الأمر بزيارة رئاسية إلى أي دولة أخرى. لكنها في العلاقات الجزائرية الفرنسية ضرورية بل حاسمة حتى في الظروف الطبيعية. أما إذا تمت الزيارة بعد سنتين أو ثلاث من توتر العلاقات والصعود والنزول، تصبح هذه الحسابات أكثر من هامة، ليس فقط للجانب الجزائري وإنما أيضا للجانب الفرنسي كذلك. فالرؤساء الفرنسيون يفضلون زيارة الجزائر فور انتخابهم أو أثناء الحملة الانتخابية، ومَن لا يفعل يبقى «التقصير» محفوظا في دفتر رئاسته.
ولأن الطرف الزائر جزائري، وبالنظر لحساسية العلاقات الثنائية وتعقيداتها، فالزيارة تعني كل المجتمع السياسي الفرنسي، بيمينه ويساره ومعتدليه ومتطرفيه، ولا تعني الرئيس ماكرون وحكومته فقط.
كما هناك مزيد من الحساسية في الجزائر إزاء زيارة رئاسية إلى فرنسا تجري قبل ثلاثة أشهر من الاقتراع الرئاسي: الخوف من أن يقال في الجوار والخارج، وفرنسا تحديدا، أن تبون ذهب يطلب تزكية باريس. الأمر الذي قد يجعل السابع من أيلول (سبتمبر) أكثر ملاءمة للطرف الجزائري.
وإذا وضعنا كل هذه الاعتبارات جانبا، تبقى الجوانب العملية مثيرة للقلق هي الأخرى، وتحديدا ما يتعلق بمصير أي اتفاقات ومعاهدات تُوقَّع لو زار تبون باريس قبل ثلاثة أشهر من انتهاء ولايته ووسط غموض حول نواياه والانتخابات الرئاسية المقبلة.
توفيق رباحي/ كاتب صحافي جزائري/ نقلا عن القدس العربي