عائشة بلحاج تكتب.. ليته كان رجلاً لأقتله
لو كان الفقر رجلاً لقتلَه عليّ بن أبي طالب، لكن بماذا يُفيد قتل رجلٍ واحدٍ لإنقاذ سبعة مليارات من الناس يا علي؟ من الممكن أن يكون الفقر رجلاً، لو كنّا نتحدّث عن عشرات الآلاف من البشر، كما كان كذلك في عصره. أما مليارات اليوم “مليار منها يعانون منه فعلياً”، فيليق بنا أن نقول فيها: “لو كان الفقر جيشاً من الناس لأرسلنا خلفهم قنابل وصواريخ لإنقاذ الفقراء من أياديهم الغليظة التي تخنق الأعناق والأرزاق”.
لكن ما الفقر؟ هل هو فقر المال أو فقر التحكّم في المصير؟ ففقراء اليوم لم ينبتوا كالفِطر، بل هناك أيد تعهّدتهم بالعناء، حتى ولدوا في أراضٍ بور. الفقر ليس حكماً بالمؤبّد، بل السّبيل إليه، هو العدوّ الحقيقي، وهو: قلّة ما في اليد وغلاءُ الأسعار. في زمن نشأة الدّولة الجبانة، بدل حلم الدولة الاجتماعية الذي ظل حلماً لجلّ شعوب العالم، فصرنا نراها تقف كالقطيع السّارح، الذي يقوده البنك الدولي وأصحاب المال من الشّرق والغرب، الذين لا ملّة لهم غير المال وحده. فتقترض الدول المتعثّرة، لسوء تدبيرها، من البنك الدولي بيد، وتعيد باليد الأخرى القروض وفوائدها، من جيوب النّاس الخفيفة، في دوامة عبثية.
الأداةُ الأولى لحشد البنك الدولي وعُصبته هي التّعويم، الذي خضعت له دولٌ عديدة، منها مصر ولبنان وتونس. الثانية، رفع الدّعم عن أسعار المواد الأوّلية للدول التي لم تستطع مواجهة الآثار الشّعبية للتعويم، مثل المغرب. نتيجة ذلك، ارتفعت الأسعار، حتى صار الإنسان متوسّط الحال عاجزاً عن شراء موادّ كثيرة. وصارت الخضر، ملجأ الفقراء، إلى جانب حبيب الجماهير، الخبز، في مهبّ ريح الغلاء، في دول فلاحية اعتمدت فيها الأسر الفقيرة، التي تكون عادة غزيرة العدد، على الخضر، لسدّ رمق الأُسر، بلا أدنى عناء.
على هذا الإيقاع، سنعود قريباً إلى زمان الفقر “الطبيعي”، حيث عاشت شعوبٌ كاملة على البطاطس والأجبان، مثل أجزاء من أوروبا. وعلى منتوجات القمح والقليل من الخضر التي عُرفت مبكّراً في دول المتوسط، وأولها البصل. وفي الجزيرة العربية تُطلعنا رواياتٌ كثيرة على مظاهر الفقر، قبل ثورة النفط، مثل “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، و”دلشاد” التي تشرح فيها بشكل مستفيض الروائية العمانية بشرى خلفان كيف كان الفقراء يقضون يومهم بتمرة واحدة في معداتهم.
الآن، عندما أقرأ ما يكتبه أصدقاء لي من مصر وسورية ولبنان على “فيسبوك”، عما لا يستطيعون تحمّل كلفته من الأشياء، أُصاب بالصدمة، فالبيض والأجبان واللحوم والفواكه، وكثير من الخضر، خارج موائد كثيرين منهم نهائياً. إضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، ربما ما زالت محتملة لقدر من الأسر المتوسّطة الدخل في المغرب، لأنّها ضرورية في أي تغذية متوازنة. فما العمل مع البروتينات والفيتامينات والألياف؟
يُقال إن التضخّم طبيعي بعد سنوات كورونا العجاف. لكن السنوات تمرّ، وهو يزيد ولا يستقر بعد تعويض الخسائر… وأول ما فعلته الدّول لتعويض الدعم الذي قدّمته كل منها حسب استطاعتها لفئاتٍ عانت من آثار الإغلاق فرض ضرائب جديدة، كل وجبروته في البلاد وقبضته على العباد. عباد الله، لا عبيد الخبز والحاجة، وضحايا النيوليبيرالية التي تحمي رؤوس الأموال، لا رؤوس الناس، التي تتوفّر بكمية وافية، لا حاجة لعدد هائل منها. بينما رؤوس الأموال ثمينة وعزيزة وغالية على قلوب الدول والحكومات والبلديات، والمخلوقات المالية الضّخمة الجيوب المفتوحة الشّهية.
تقول الإحصاءات عن الفقراء، وسقف الفقر الذي يقطُر بلا توقّف، حتى أوشك أن يقع على رؤوسهم الهشّة الجماجم، حسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، إنّ ثلث العالم العربي يعيش تحت خط الفقر. ولا تشمل هذه الدول منطقة الخليج وليبيا، كما أن دولاً مثل السودان بلغت مستويات المجاعة. لأن الفقر اختار أفريقيا والشرق الأوسط رفيقيْن حميميْن، لأنهما المكانان الوحيدان في العالم اللذان ازداد فيهما الفقر في العقد الأخير.
لو كان الفقر عدوى لما انتشر بهذه الكثافة، في دولٍ نهشتها السياسات الاقتصادية الفاشلة، والفساد السياسي… فلا مجال، يا عليّ، ما من قاتل نقتله، ولا من قتيل ندفنه، غير الرّجاء.