العدوان الإسرائيلي على غزة: «اليوم التالي» الذي لم يأت بعد!
يتضافر أكثر من مؤشر اليوم في حرب غزة ليزكي خلاصة مهمة هي أن الاحتلال الإسرائيلي فقد القدرة على تملك رؤية حول المستقبل، ليس فقط لأنه عجز عسكريا عن القضاء على حركة حماس وتقويضها سياسيا، ولكن، لأنه لا يملك بين مروحة أوراقه أي سند من حليف على الأرض يمكن أن يعول عليه في إنهاء الدور السياسي والعسكري والأمني لحماس في قطاع غزة.
مؤشر فشل أكثر من جولة من التفاوض مع حركة حماس عبر الوسيطين القطري والمصري وبرعاية أمريكية، على الرغم من مرونة حركة حماس، وخفضها لعدد الأسرى الفلسطينيين الذين يفترض أن يقابلوا بتسريح المحتجزين الإسرائيليين لديها في قطاع غزة، وقد اتضح من خلال هذه الجولات أن الطرف الإسرائيلي يحاول دائما أن يعرقل أي تقدم يتم تسجيله، ولو اقتضى الأمر أن يتراجع عن سابق موقف قدمه بين يدي الوسطاء.
مؤشر الضغط الأمريكي على الاحتلال، والذي بلغ درجة إرسال تهديد ضمني لرئيس الوزراء الإسرائيلي بأن إدارة جو بايدن ستتجه إلى البحث عن حكومة أخرى إسرائيلية قادرة على تحمل كلفة إنهاء الحرب وإنجاز صفقة تبادل الأسرى.
يمكن في سياق هذا المؤشر أن نقرأ دعوة الإدارة الأمريكية لوزير في حكومة الحرب الإسرائيلية بيني غانتس، وأيضا الدعوة التي أطلقها زعيم الأغلبية بمجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر لإجراء انتخابات مبكرة بإسرائيل.
رئيس الوزراء الإسرائيلي التقط الإشارة، ورد بالقول: «لا يوجد إلا رئيس وزراء واحد في إسرائيل» وقال في الرد على شومر: «من غير المناسب أن نتوجه إلى ديمقراطية شقيقة ونحاول استبدال القيادة المنتخبة هناك».
البعض يعتقد أن الاحتلال يملك رؤية استشرافية لما يعد الحرب على غزة، وأنه حصل تبادل وجهات النظر حولها مع الطرف الأمريكي، وأن إدارة بايدن بسبب رفضها الشديد لهذه الرؤية، تسعى لممارسة ضغوط سياسية شديدة على رئيس الوزراء الإسرائيلي من أجل التفكير في رؤية أخرى بديلة.
في الواقع، لا تبدو هناك مؤشرات رؤية استشرافية إسرائيلية لما بعد الحرب على غزة، فليس في جعبة الاحتلال اليوم سوى عملية رفح، التي يجري التهديد بها، من أجل تقوية الموقع التفاوضي وإجبار الأطراف الدولية على مسايرة تطلع الاحتلال إلى سيناريو مفترض يكون عنوانه الأبرز إنهاء الدور السياسي والعسكري والأمني لحماس.
في الظاهر ترى معظم الأطراف الدولية أن عملية رفح المفترضة هي عودة لخيار التهجير، ولذلك، يتم في كل مرة التحذير منها، ومن عواقبها الخطيرة على المنطقة، وبشكل خاص إشعال حرب إقليمية بها، لكن وحدها الإدارة الأمريكية تفهم بشكل دقيق ما ترمي إليه حكومة الحرب الإسرائيلية من وراء عملية رفح، ولذلك، فإنها تطلب منها الكشف عن عناصر هذه العملية، حتى يتم التأكد مما إن كانت تضمن تأمين المدنيين أم أنها لا تعدو أن تكون حلقة من حلقات الإبادة الجماعية التي تمارسها حكومة الاحتلال كل يوم في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب عليها.
الإدارة الأمريكية لحد الآن لم تطلع على أي خطة إسرائيلية بهذا الخصوص، وهي تدرك أن حكومة الحرب الإسرائيلية تستعمل ورقة عملية رفح فقط لممارسة الضغط على حماس وعلى مختلف المعنيين بعملية التفاوض، حتى يتم الاشتغال على بديل لما بعد حماس، يوفر الأمن لإسرائيل ويضمن عودة المستوطنين إلى غلاف غزة.
في الداخل الإسرائيلي، ثمة ما يشبه القناعة الثابتة في مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية أن غرض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هو إطالة أمد الحرب حتى ينجو بنفسه من أي مساءلة قانونية وجنائية تنهي مساره السياسي، لكن بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية، ثمة قناعة أكثر تداولا لدى مختلف الطيف السياسي، أن ليس فوق الطاولة بديل سياسي في غزة، يضمن إنهاء دور حماس الأمني والعسكري والسياسي، كما أنه ليس من الممكن ضمان استقرار سياسي في المنطقة على المدى القريب والمتوسط، فضلا عن البعيد، دون تنزيل «حل الدولتين».
حماس تغير عقلها السياسي قليلا في الآونة الأخيرة، بعد أن اشتدت الأزمة الإنسانية، ووصلت المعاناة بالشعب الفلسطيني إلى درجة المجاعة الشاملة، فأبدت مرونة كبيرة في المفاوضات، ولا يبدو أنها ستبقى متشبثة بشكل حرفي بشروطها السابقة في تبادل الأسرى، لكنها في المقابل، تدرك أن أي تفاوض لا ينتهي بوقف العدوان وانسحاب الاحتلال من قطاع غزة وإنهاء المعاناة الإنسانية على الشعب الفلسطيني، سيكون الاستمرار في المقاومة أفضل منه مهما كانت النتيجة.
في المحصلة، ثمة مشكلة وقت تحاصر الجميع اليوم، الإدارة الأمريكية التي تخشى من خيارين، تهور الاحتلال بالمرور إلى السرعة القصوى في عملية رفح، بما قد يشعل المنطقة ويؤذن باندلاع حرب إقليمية عارمة، والثاني، أن يمتد أمد الحرب لوقت أطول، بما يعقد المشكلة الإنسانية في غزة، وبما يحدث زلزالا عالميا، لا يستطيع أحد أن يتوقع مآلاته.
بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي، ففقدانه لورقة الشخصيات المشبوهة التي قد تجد دعما من قبل العشائر الفلسطينية، والخشية من أن تتولى قرارات الدول بمنع تصدير الأسلحة إلى تل أبيب بعد موقف كندا جعله أسيرا للوقت الذي لا يستطيع تدبيره بالشكل المناسب، فالضغط الذي مارسه من خلال سياسة التجويع واستهداف المدنيين، بل واستهداف اللجان المدنية التي تستقبل المساعدات، فضلا عن استعمال ورقة عملية رفح، كل ذلك، لم يدفع إلا في اتجاه مرونة ذكية من جهة حماس، ساهمت في حصار العدو الإسرائيلي، دون أن تقدم له أي مكسب سياسي يمكن أن يعود به إلى الداخل في صورة نصر سياسي تحقق بفضل الحرب.
الجولة السادسة، ولعلها الأخيرة، التي يقوم بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للمنطقة، والتي تبدأ بالرياض ثم القاهرة وتل أبيب، ثم مشروع القرار الأمريكي الذي سيعرض على مجلس الأمن بخصوص وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة لستة أسابيع، يؤشران في الجوهر على نفاد الصبر الأمريكي على حكومة الاحتلال، والنقطة الأخيرة في السطر بالنسبة لسياسة نتنياهو الذي يرهن مستقبل الدولة العبرية وأمنها باعتباراته الشخصية، فالرسالة الواضحة التي يراد إيصالها إلى حكومة الاحتلال، أن البديل عن رفض وقف الحرب في غزة وتكثيف المساعدات إلى الشعب الفلسطيني هو حصول تغيير سياسي، ينهي حكومة بنيامين نتنياهو ويأتي بحكومة تستطيع تحمل كلفة وقف الحرب والذهاب لصفقة تبادل يعرف الجميع أن حماس ستكون الكاسب الأول فيها.
بكلمة، إن غياب رؤية «اليوم التالي» لدى دولة الاحتلال، وعدم وجود تصور لمستقبل سياسي لقطاع غزة ينتهي فيه دور حماس العسكري والأمني والسياسي، هو الذي يدفع اليوم بكل قوة نحو فكرة التغيير السياسي في إسرائيل.
وإلى أن يحدث ذلك، فإن الإدارة الأمريكية، تحرك ورقتها الأخيرة، عبر جولة بلينكن، للتوصل عبر الحوار مع السعودية ومصر والضغط على تل أبيب، إلى خيار سياسي مؤقت في قطاع غزة، تديره حكومة وطنية تحظى بقول الفصائل الفلسطينية، ويتم فيه إقناع حماس، بعدم المشاركة في واجهته السياسية، أو على الأقل المشاركة بوجوه تكنوقراطية غير معروفة، إلى أن يتم إجراء انتخابات تشريعية في القطاع، مع تأجيل القضية الأمنية والعسكرية في قطاع غزة إلى ما بعد إجراء هذا الاستحقاق التشريعي.
بلال التليدي/ كاتب وباحث مغربي/ نقلا عن القدس العربي