منصف الوهايبي يكتب.. عالم عربي أم عوالم عربيّة

يعيدنا «طوفان فلسطين» إلى أنفسنا نحن البعيدين عن «أمّ البدايات، أمّ النهايات»، كما نراها بأعيننا، وبأعين الآخرين أيضا؛ وقد صار بعضهم أقرب منّا، إلى فلسطين. على أنّ كثيرا أو قليلا منهم ـ فالأمر يحتاج إلى إحصاء وتنسيب ـ لا يزال أسير صورة «نمطيّة» عن فلسطين وعن سائر العالم العربي، غلوّا أو تقصيرا؛ وليس أمرهم واحدا كما قد يقع في الذهن. ولعلّ أطروحة «فاليريو فيتوريني» الموسومة بـ«صورة العالم العربي في الأدبين الفرنسي والإيطالي في القرن التاسع عشر: التماثلات والاختلافات والتأثيرات المحتملة» (بالفرنسيّة) خير ما نستأنس به في هذا السياق؛ وقد عرف صاحبها كيف يفيد من فكر ادوارد سعيد، وينقلنا من الاستشراق في صورته الرسميّة في القرن الثامن عشر، إلى القرن التاسع عشر؛ وإن كان الباحث التونسي محمّد طاع الله يرى أنّ الظاهرة ترجع إلى اللحظات الأولى لظهور الإسلام، وتجسّده أمام رجال الكنيسة المسيحيّة في صورة الديانة المنافسة والمعادية، بعبارته.
وكان الراهب السوري يوحنّا الدمشقي (ت.132هـ) «أوّل» من صنّف في الإسلام، في سياق خطاب سجالي حجاجي ما انفكّ يسِم أكثر هذه المباحث الاستشراقيّة. وهو ما قد يتعذّر التسليم به، فهذا الراهب لم يكن مستشرقا، بالمعنى الذي استتبّ لمصطلح «الاستشراق» من حيث هو علم الشرق بجغرافيته وتاريخه وثقافته وحضارته؛ وإنّما هو ابن هذه البيئة التي نشأ بها الإسلام ودرج، شأنه شأن اليهوديّة والمسيحيّة، وخطابه يواصل السجال الديني اللاهوتي الذي نقف عليه في النصّ القرآني نفسه، وكان له شأن في العصرين الأموي والعبّاسي؛ ممّا يمكن أن ندرجه في باب الحِجاج. وموضوع الاستشراق لا يزال حتى اليوم، يثير أكثر من مسألة خلافيّة، مدارها على الإسلام في المخيال المسيحي والاستشراقي والنقد الإيديولوجي للاستشراق، وما إلى ذلك من موضوعات ينخرط بعضها في سجال تقليدي ومماحكات لا طائل منها؛ ومثالها مشكلة النبوّة والوحي، وابن الله… وما إليها من قضايا ومسائل لاهوتيّة خلافيّة لا حلول لها.
على أنّ الاستشراق لم يتّخذ وجهة «علميّة» إلاّ في الأزمنة الحديثة، أي بعد أن تحرّر من نير الرؤية اللاهوتيّة، ووقفت طائفة من العرب والمسلمين، على حقيقة تخلّفهم عن ركب الحضارة؛ وما دار بينهم وبين المستشرقين من سجال فكريّ، انتصاراً لهم أو عليهم. وبعض هؤلاء العرب كانوا من نجباء «تلاميذ» المستشرقين، ومن الذين ترسّموا مناهجهم في الدراسة والتحقيق. وكان ذلك منذ غزو بونابرت (1789) مصرَ، بعساكره وعلمائه، وما تلاه من استعمار البلاد العربيّة، واستنزاف عمقها الحضاري. ولعلّ اللحظة الفارقة في تاريخ الاستشراق، وفي استفحال الشكّ والريبة في الآخر، هي التي بدأت مع وعد بلفور، وما أعقبه من احتلال فلسطين، وتزامن الظاهرة الاستشراقيّة على امتداد القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين مع الحركة الاستعماريّة والتبشيريّة، بل ارتباطها بها في مواقع غير قليلة؛ فطبيعة المنهج الاستشراقي في مقاربة التراث الإسلامي وخاصّة النصّ الديني المؤسّس مثل القرآن. ويقوم هذا المنهج على المعالجة الفيلولوجيّة واللسانيّة والأنثروبولوجيّة والتاريخيّة التي لا تبالي بقداسة النصوص، وإنّما تبحث في نشأتها وفي طرق انتقالها.
ومن أمثلتها في الدراسات الاستشراقيّة «تاريخ القرآن» للألماني نولدكه. وهذا منهج يمكن أن يربك الضمير الديني عند المسلم، ويتعارض مع مسلّماته الإيمانيّة. وهو ما يجعل العرب ينظرون نظرة شكّ وريبة إلى المستشرقين، ويفسّرون الاستشراق تفسيرات سياسيّة استعماريّة؛ على نحو ما نجد عند أكثر الذين هاجموا الاستشراق أمثال أحمد فارس الشدياق والأمير شكيب أرسلان وعبد القادر يوسف ومحسن جمال ومالك بن نبي، مقارنة بالذين نافحوا عن الاستشراق أمثال طه حسين وزكي مبارك وعائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ) وعبد الرحمن بدوي وصلاح الدين المنجّد ومحمّد كرد علي…
وقد ساق ميشال جحا عشرة دوافع: ديني تبشيري، واستعماري، وسياسي، وعلمي، وتجاري، واقتصادي (النفط العربي)، وجغرافي واستراتيجي، وشخصي، وأدبي (حكايات ألف ليلة وليلة)، وحملة نابليون على مصر. وكان بالإمكان اختزالها في ثلاثة دوافع: دينيّة وعلميّة وسياسيّة. وأقدّر أنّ نجيب العقيقي في مصنّفه «المستشرقون» أو محمّد عوني عبد الرؤوف في كتابه الدليل «جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة»، من العرب القلائل الذين نظروا إلى الاستشراق، بعين موضوعيّة. والمصنّف الأوّل، وهو أشبه بموسوعة، مرجع لا غنى عنه لمن يروم البحث في هذا الموضوع. ويمكن أن نشير على سبيل المثال إلى الفصول التي خصّصها لكراسي اللغات الشرقيّة في دول أوروبا وأمريكا، وللاكتشافات الأثريّة التي قام بها علماء ومستشرقون غربيّون، والمتاحف الشرقيّة التي كانوا من باعثيها، ولـ»دائرة المعارف الإسلاميّة» التي صدرت بالألمانيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة ثمّ ترجمت إلى العربيّة، وترجمة أمّهات كتب التراث وتحقيقها، من آداب وشعر وعلوم وكتب تراجم وطبقات. وهذه وغيرها كانت من ركائز النهضة الأوروبيّة، بل هي تضيء ظروف ميلادها وملابساتها، ومنجزاتها في الآداب والعلوم، أي ما قد يراه بعضنا اليوم رماد ضوء أو بكاء على طلل.
ومع ذلك فالنهضة الأوروبيّة كانت محصّلة تفاعل بين ثقافات وحضارات، ومنها ثقافة العرب وحضارتهم. وما نعدّه اليوم تعتيما إعلاميّا على هذا الجوانب المضيئة؛ حيث يُقدّم العرب على أنّهم صُنّاع إرهاب، لم يكن كذلك منذ مائتي عام؛ فقد نشر الباسكي ايستيبان أرتيغا عام 1791 مصنّفه المخصوص بتأثير العرب في نشوء الشعر الحديث في أوروبا، وأعقبه سيسموندي بكتابه عن الأدب في الجنوب الأوروبي. والاثنان يقرّان بأنّ الشعر الأوروبي الحديث يدين، شكلا ومحتوى، لشعر العرب في الأندلس؛ بما في ذلك نظام الفروسيّة وصورة المرأة أو الحبيبة المقدّسة.
وثمّة أكثر من دراسة تبيّن أنّ في «كوميديا» دانتي، وهي قاعدة اللغة الأدبيّة الإيطاليّة الموحّدة، أكثر من وشم عربي: غفران المعرّي وفتوحات ابن عربي أو قصص الإسراء والمعراج التي كانت قد ترجمت إلى اللغات الأوروبيّة قبل دانتي بقرون.
هذا بالرغم من أنّ الأمر يتطلّب منّا كلّما تعلّق بالمسألة الدينيّة من منظور استشراقي؛ أن نبحث في الجذر المشترك الذي انبثقت منه هذه العقائد التي ينفي بعضها بعضا؛ فيما هي تدين بظهورها لظروف وملابسات تاريخيّة مخصوصة.
وعليه لابدّ من زحزحة هذه الحدود، عسى أن نبلغ مستوى من الفهم المشترك، ونتوقّف ـ كما يقول أركون ـ عن كوننا عبارة عن قلاع مغلقة تتصارع وتتحارب؛ ثمّ ننخرط بعدئذ في البحث المتضامن، بصفتنا نفوسا تتخبّط في الحدود نفسها، أي تلك الخاصّة بالمنزلة الإنسانيّة.
وواضح أنّ منهجا كهذا لا يسفّه الإيمان أو العقيدة، وإنّما هو يشرحهما ويفسّرهما، ويخلّص الناس من دغمائيّتهم، ومن المماحكات العقيمة التي تفصل بعضهم عن بعض.
غير أنّ هذا المنحى يظلّ شأن أفراد مستنيرين، أمّا عداهم فإنّ الموقف من العالم العربي، هو كما يقول فاليريو فيتوريني، لا يزال محكوما بالرغم من تطور وسائل الإعلام المذهل ومن ظاهرة السفر عبر القارات جوّا وبحرا، بصور ثابتة في المخيّلة الأوروبيّة التي انْتسجتْ في القرن الثامن عشر؛ وتحديدا مع ظهور أدب الرحلة إلى الشرق وما رافقه من «الدراسات «الشرقية» أو سبقه مثل الفرنسيّة والإنجليزيّة والإيطاليّة نتيجة التوسّع الاستعماري في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وهذا يعزّز ما يقوله ادوارد سعيد من أنّ المفهوم الجماعي «نحن الأوروبيّين» تخصيصا، أو فكرة أوروبا في المخيّلة الأوروبيّة هي مقابل كلّ «أولئك» الذين هم من غير الأوروبيين؛ أي الهويّة الأوروبيّة المتفوّقة على جميع الشعوب وجميع الثقافات التي ليست منها.
وهذا من بين ما رسّخ «صورة الشرق المعقّد» في الذهنيّة والمخيّلة الأوروبيّتين، وفي شتّى الأطروحات الأنثروبولوجيّة والبيولوجيّة واللغويّة والإثنيّة والتاريخية حول الإنسانية والكون عامّة. وقد عزّز فيتوريني كلّ هذا بشواهد دقيقة من الأدبين الفرنسي والإيطالي. وقراءة الرواية مثلا لا تنحصر في الشكل السردي، وإنّما في تطوير المعرفة بالخاصّ، من خلال عالم المشاعر والعواطف والأخيلة التي يعرف الكاتب المتمكّن من أدوات فنّه، كيف يجعلنا نشعر بها ونتمثّلها. ومن هذا المنظور فإنّ العمل الأدبي لا يعني الأخلاق فحسب بالمعنى الواسع للكلمة؛ وإنّما الفلسفة السياسيّة أيضا حيث الأدب أداة مميّزة في صياغة «مجتمع سياسي» وفي دعم ظاهرة الاستعمار والامبرياليّة؛ على النحو الذي نلمسه في أدب القرن التاسع عشر الأوروبي، في مجتمع يعتقد في «تفوّقه الموضوعي».
ويقول فيتوريني إنّ دراسة هذه النصوص تيسّر لنا اليوم، أن ندرك الطريقة التي تمّت بها صياغة النظرة «الأوروبيّة المشوَّهة» بعبارته للعالم العربي، في زمن لم يكن فيه لأدب الرحلات الأوروبي أي منافسين حقيقيّين. والعالم العربي اليوم كما يبين عنه «طوفان فلسطين» هو مثل عالمنا نفسه عوالم متجاذبة متدافعة؛ في انتظار أن ترسي فلسطين سفينتها على الجودي.
منصف الوهايبي/ كاتب من تونس/ نقلا عن القدس العربي

 

مقالات ذات صلة