عندما تقتل المجتمعات النخب

لم يعد يخيفني أمر موت النخب، خاصة إذا نظرنا إلى طبيعتها الحالية وطموحاتها، وأدوارها المنتهية في المجتمع قبل السلطة. فلعل موتها يعجل وفق السنن الإلهية بميلاد نخب مختلفة.
هناك نخب كثيرة قد ماتت رمزيا أو علميا وفقدت تأثيرها، وأجهزت أخرى على نفسها بسبب مواقفها. لكن يخطئ الناس إذ يعتبرون أن موت الأفكار هو المشكلة، فموت النخب أعظم، فهي من ينتج هذه الأفكار. وأن تموت فكرة أهون من أن يموت وجدان المثقف، فالمجتمعات تتذكر الأشخاص لا الأفكار.
إن الجرح المؤلم الذي نحكّه بأصابعنا، قد يولّد لدينا أحيانا نوعا من اللذة والاستمتاع بالعودة إلى حكّه من جديد. وجرح النخب العربية مفتوح منذ زمن طويل، ويغرينا بحكّه كل مرة، لا لكي نتلذذ، بل لكي نتذكر أنه مازال مفتوحا. وأفضل هنا استعمال كلمة قتل النخب على كلمة موتها، بسبب أن النخب لا تموت لوحدها. لكنها تختفي من التأثير على المشهد السياسي والاجتماعي، لظروف وأسباب موضوعية في فترات تاريخية معينة.

الدور التاريخي

لم تعد هناك نخب بالمعنى التقليدي لهذا المفهوم، ووفق الدور التاريخي الذي كانت تلعبه في المنطقة. إن مصارع النخب تحدث بشكل عبثي، فالمجتمعات مسؤولة بالقدر نفسه مع السلطة عن موت النخب. لقد أصبحت العبثية مفهوما منضبطا قائما ومقصودا، ولكي ندرك فاعلية العبثية، ينبغي أن يكون شعورنا حيّا.
إن العبثية تمنح الفوضى درجة من التماسك، وتجعل ما ليس مترابطا ممكن الترابط في الواقع. والعبثية في المنطقة تحرج مقاييسنا ومعاييرنا، التي اعتدنا على استخدامها في تفسير الأحداث والظواهر وأنماط السلوك.
” العلم يأتي ولا يُؤتى إليه” عفوا لقد قلبت الجملة ومعناها المعروف. لكن الحقيقة أن هذا القلب يعكس الوضع الحالي للنخب المستجدية. لقد كنت أستغرب في السابق لرؤية رجال السياسة، وقد تحطمت معنوياتهم بسبب اضطراهم إلى مغادرة مواقعهم في السلطة، بعد أن اعتادوا على درجة عالية من الاهتمام والأضواء حينها، من طرف المجتمع والسلطة.
لكن استغرابي قد زال تدريجيا عندما شاهدت كثيرا من النخب المثقفة تتحطم معنوياتها، بسبب فشلها في المنافسة على البقاء ضمن المشهد العام.
إن بعضهم يستجدي لقاء أو مقابلة مع صحافي دون فائدة ترجى. لا لكي ينتج رؤية وفكرا للمجتمع، بل لكي يعلن أنه مازال حيّا فقط، أو يحاول إقناع الجمهور أن بإمكانه الحديث بشكل جيد وممتع، حتى في التفاهات التي كان يأنف بالأمس من الحديث عنها.
أجل يريد الآن كثير من المثقفين أن يحشروا أنوفهم حتى في قضايا الفنانين ومشكلاتهم اليومية، ليثبتوا فقط أنهم أيضا من هذا العالم. إن عددا منهم على استعداد أن يتحدثوا في ساعة واحدة، عن رؤيتهم المتكاملة لقضية فلسطين، وعن توقعاتهم المستقبلية لنتائج طلاق فنانة معروفة من زوجها.
تطالب النخب المجتمعات بالاهتمام بها ضمن التفاهة السائدة، وتطلب من السلطة المكتفية ذاتيا، بمنحها أدوارا ضمن الفوضى. غير أنه ينبغي علينا الاعتراف أن كثيرا من المثقفين بشتى أصنافهم لا يمنحون المجتمعات أمرين أساسيين، وهما السعادة ووضوح الرؤية.
فلا الشاعر العربي قادر على إتحاف الناس وإمتاعهم بإبداعاته، بسبب ضعف حالة الشعور لدى الشعراء. ولا المفكر والعالم ناجح في توفير الإثارة الفكرية. ومن هذه الناحية على الكثير من المثقفين أن يتوقفوا عن حالة الاستجداء والشكوى.
إنني أبذل جهدي كمشتغل بالتاريخ والاجتماع من أجل فهم الزمان الذي نعيشه، وهو يحطم كل ما عرفناه سابقا.
ولا أقصد بمصارع النخب العربية في هذا السياق انقراض المثقفين العرب أو خلو الزمان منهم. بل أقصد نهاية الدور الذي كانوا يقومون به داخل المجتمع والسلطة أو بالقرب منها، وتحولهم إلى هامش السلطة، بل إلى هامش المجتمع في كثير من الأماكن والأحيان. فلم تعد المجتمعات العربية تحمي نخبها، بعد أن كانت تلك المجتمعات حاضنة طبيعية للنخب، خاصة في حال صدامها بالسلطة.
لقد بات كثير من المثقفين يستجدون أصحاب القنوات، من أجل أن يمنحوهم فرصة الظهور والاستمرار في الحياة. إنهم سوف يقبلون حتى الجلوس على مائدة واحدة مع أحد التافهين المشهورين، لكي يستفيدوا من سطوته في المجال العام، دون أن يكون لهم شرف الكلمة والتوجيه.
أمّا أدوات التواصل، التي تمثل الملاذ الأكبر بالنسبة للنخب، فلا يمكننا أن نلوم عددا من الإعلاميين بداخلها. فقد باتوا يجدون حرجا كبيرا، في كيفية التعامل مع النخب. حيث يفرض عليهم واقع المتابعة وميول الناس استبعاد المثقفين والتقليل ما أمكن من حضورهم، والتركيز باهتمام على النماذج الجديدة التي يتابعها الجمهور.

نموذج الإزعاج الجديد

إننا نخطئ في استعمال كلمة” المؤثرين”، لوصف عدد من المتحدثين في الشأن العام عبر قنواتهم. فهم في الحقيقة يدخلون ضمن مفهوم” الإزعاج” الموجّه نحو السلطة والفاعلين السياسيين والاقتصاديين خارجها، وإلى خصومهم أيضا.
أما وصفهم بالإزعاج فلأن الكثيرين منهم يثيرون قضايا مهمة، لكنها خالية من الرؤية.
إن الإزعاج هو الدور الجديد، الذي لا يبلغ درجة التأثير، إلا في حدود معينة عندما يتحول إلى رأي عام فاعل ومتحرك. فهناك الكثير من الوعاظ المزعجين، والناشطين المزعجين.
وتتحدث النماذج والوجوه الجديدة الصارخة في السياسة من دون رؤية سياسية، وفي الثقافة من دون رؤية ثقافية، وفي التاريخ من دون رؤية تاريخية. إنها تعبير حقيقي عن حالة التشوه في الثقافة العربية والذوق العام. لكنها قد جلست في الكراسي الفارغة التي تركتها النخب. وقد كان الخطأ التاريخي للنخب العربية، هو اعتقادها أن العلاقة مع السلطة هي المحدد الأساسي لموقعها في المجتمع.
وبعد أن فقدت النخب التقليدية أدوات التأثير، فإن علينا أن نقبل أن فئة “الإزعاج” الجديدة، أصبحت في أعلى سلّم النخبة، بسبب دينامية الإزعاج التي تسببها للسلطة في المنطقة. بل إن هذه النخبة باتت هي الوسطاء الجدد بين السلطة والمجتمع. وسوف نرى مستقبلا أن فكرة التيار، سوف تنشأ على قاعدة دينامية الإزعاج الذي يتمدد في المنطقة.
إن مزاج المجتمعات يميل في الأحوال العادية، إلى تفضيل المغنين والفنانين والرياضيين، وأكثر من ذلك المشاهير الذين ليست لهم أي هوية أو تعريف، على باقي أصناف النخب.
ويميل الناس أكثر نحو المثقفين في لحظات الأزمات والثورات. لكن أغرب التحولات الاجتماعية الحالية، هو أننا نقبل ونتعايش مع فكرة التحرر المطلق داخل عدد من أوساط الفن، وندرك هذا الواقع. لكننا نهب فجأة لنصبح أخلاقيين جدا، حين نحاكم أي سلوك نراه خاطئا، وقد نسينا أنه نتيجة طبيعية لما قبلناه بداية. نريد إذن من الفنان أن يكون ذا أخلاق عالية، لكننا أصبحنا لا نريد من السياسيين سوى ألا يكونوا لصوصا للمال العام.
لقد تسارعت وتيرة التخلص من النخب بعد الثورات العربية. وتزايدت أزمة الوسطاء التقليديين، الذين بات عليهم أن يتقبلوا لا موقعهم ولا دورهم الجديد. وبعد أن غادرت النخب العربية السلطة أو أجبرت على ذلك، ها هي تغادر المجتمعات أيضا. فلا توجد نخب ملهمة للأجيال الحالية، وتنساح أفكارها في وعي الناس.
ولا تملك النخب “الجديد”، الذي ترغبه المجتمعات وتبحث عنه باستمرار. إن مفهوم الجديد بالغ التأثير في الوعي. وحتى أولئك العاشقون للفن يبحثون عن الجديد. فالجديد يؤثر فينا لمجرد سماع هذه الكلمة الساحرة، ولذلك يتغنى الفقهاء والمفكرون بمفهوم التجديد، بسبب ما يحدثه في الوعي العام، وإن كان محتواه فارغا أحيانا.
إن النخبة ليست الشرط الضروري للتغيير في الوقت الحالي، لكونها أصبحت في أكثر الأحيان عائقا أمام المبادرات والمشاريع التي تنتجها المجتمعات. ذلك أن النخب قد أحاطت نفسها بالتزامات، فرضت عليها قيودا فكرية وسياسية وشعورية تجاه أي تغيير.

كمال القصير/ كاتب مغربي

مقالات ذات صلة