«الملعونة جنوب أفريقيا»!

هناك غاضبون كثر على جنوب أفريقيا، صدّق أو لا تصدّق! انهالوا عليها بالشتائم واللعن، في الأيام الأخيرة، كما لو أنها الشيطان الرجيم شخصياً. وبالضبط بمواجهة المحتفلين بدعواها الجريئة والاستثنائية في مواجهة إسرائيل، الدعوى التي أجمع المراقبون أنها محضرة ومحبوكة بشكل مذهل على يد أكثر المحامين براعة وخبرة.
لماذا؟ لأن بلد الزعيم التاريخي الراحل نيلسون مانديلا وقف إلى جانب نظام بشار الأسد، التهمة نفسها التي حاول بنيامين نتنياهو أن يدافع عن جرائمه بها، عندما اتهمها بالنفاق، وبدعم نظام المجرم السوري.
لا يغتفر لأحد وقوفه إلى جانب نظام مجرم، خصوصاً إن جاء الدعم في عزّ سنوات الجريمة والقتل، لكن ما المطلوب؟ أن تقف جنوب أفريقيا بالمثل إلى جانب «الإبادة الجماعية» الإسرائيلية، حتى تبدو مخلصة لنفسها، منسجمة، وأقل انفصاماً!
أليس بالأمر الجيد أن يعترف المرء بجريمة من اثنتين، على أمل أن يعترف يوماً بالأخرى؟

هل نحن بصدد محاكمة جنوب أفريقيا أم إسرائيل؟ إلا إذا كنا حقاً نستخف بالجريمة الراهنة الرهيبة.
كم بات مضجراً ذلك الميزان المستعمل منذ عشر سنوات (على الأقل)؛ إن قلت إن بشار الأسد مجرم يعتقل ويقتل وينتهك الحريات، قال أنصاره انظروا إلى إسرائيل التي تعتقل وتقتل وتنتهك، من دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها. وإن قلت إن إسرائيل ترتكب جرائم حرب قال الإسرائيليون، وبعض معارضي النظام السوري، لماذا تغضّون النظر عن جريمة الأسد، ولماذا هو مستمر منذ ما لا يقل عن عقد من الزمن وماض في تدمير البلاد.
طيب، ونهايته؟ إلامَ ستفضي هذه المتاهة؟ أليس من الأفضل أن نضع مجرماً بالقفص، إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، في انتظار أن يُزَجّ الآخر، أم أننا نريد فقط مقاتلة النواطير!

كذبة حقوق الإنسان

مفاجآت الأشهر الثلاثة الأخيرة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت كلّها من العيار الثقيل، من بينها حجم التواطؤ الأوروبي والأمريكي مع نظام الإبادة الجماعية الإسرائيلي (نعرف أن شاطراً سيقول لنا «أين المفاجأة في ذلك؟»، و»إنكم تكتشفون المكتشف، وتجرّبون المجرب»، لكننا نتحدث عن حجم التواطؤ، لا مجرد التواطؤ فقط)، الاستقالات والتظاهرات والخطابات في العديد من البرلمانات هي التي تقول ذلك قبل الجميع. الجدل المحتدم في فرنسا مثال ساطع ويومي.
ومن الطبيعي أن تسمع من نشطاء ومسؤولين في الغرب نفسه يردّدون عبارات مثل: «انتهى عهد حقوق الإنسان»، و»انتهى عهد الديمقراطية وقيمها»، و»الحرب على غزة أسقطت الأقنعة»، بل عبارات أقسى من ذلك بكثير.
غير أن المصور السوري عمار عبد ربه، الذي تحوّل إلى «يوتيوبر» منذ سنوات، يوجّه، في فيديو جديد، لوماً لمن يتفوّه بتلك العبارات، معتبراً أن أولئك الذين يردّدونها كأنما يطالبون بنسف حقوق الإنسان، والديمقراطية، بل ويروح الرجل، من كل عقله، يشرح لنا كيف أن «حقوق الإنسان هي حقوقنا، حقوق الشعوب»، كما يذكّرنا بالتفصيل بما تعنيه تلك الحقوق «من حق كل إنسان بالحياة والأمان الشخصي، المساواة وعدم التمييز، حقوق الحرية الشخصية، وحرية الدين والعقيدة والاجتماع، وحق التعليم والصحة..»، وأن «كل تلك الحقوق ليست ملكاً للرئيس الفرنسي أو الأمريكي حتى نغضب منها»، كما يذكرنا بأن الشعوب التي تخرج في مظاهرات حول العالم إنما تستفيد من كل تلك الحقوق، ومن أجلها!

أي، وبحسب شرح عبد ربه، عندما تقول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب في خطر يعني كأنك تطالب بأن لا ضرورة لها، كأنك تطالب بإلغائها.
لا ندري كيف نظر زميلنا المصور الصحافي إلى مشروع منع تصوير الشرطة عند الجدل حوله في فرنسا من سنوات، إلى وضع حقوق الإنسان في فرنسا وألمانيا، إلى حرية التعبير، وأولئك الذين يفقدون وظائفهم بسبب كلمة، أو صورة، أو تلميح.. هل تصدق، أنت نفسك، أن ذلك يحدث في فرنسا؟ أنا مضطر هنا لاستعمال عبارة «الأمور نسبية»، فمن غير المعقول أن يكون نظام بشار الأسد أو الملالي وحدهما المقياس، فنحن نقيس بالنسبة إلى ما يجب أن تكون عليه حرية التعبير وحقوق الإنسان، كما تعلّمنا إياها القوانين الفرنسية نفسها، عندما تتحدث عن كوارث الأخطاء الطبية في فرنسا وألمانيا فأنت تتحدث بالقياس إلى سمعة الطب في هذه البلاد، لا بالقياس إلى مشفى «المجتهد» في دمشق.
في النهاية، أن تندد بالإساءة إلى حقوق الإنسان لا يعني أن تطالب بإلغائها. معقول!

نظام خبيث

تغطية عملية «طوفان الأقصى» من قبل إعلام النظام السوري، الذي يفترض نظرياً أنه يقف على الضفة نفسها مع الجهة التي أطلقتها، مثل قلع الضرس. إنها التغطية الأكثر غرابة على الإطلاق، إذ تهتم وكالة أنباء النظام الرسمية بتفاصيل الأخبار الواردة من غزة والضفة المحتلة، مع الإشادة ببطولات الفلسطينيين، ولكن مع تجاهل تام لاسم «حماس»، أو حتى لاسمها العريض «حركة المقاومة الإسلامية». فهذه اسمها، بحسب «سانا» «المقاومة الفلسطينية»، أما اسم «حماس» فمحذوف تماماً.

لا يبدو أن نظام بشار الأسد قادر على التسامح مع موقف «حماس» في سنوات الثورة السورية تجاه وحشية ارتكاباته وجرائمه، ولا يبدو أن عملية بحجم «طوفان الأقصى» جعلته يتسامح، مع أنه هو الذي في موقع المجرم، لا القاضي، في الموقع الذي عليه أن ينتظر السماح من الآخرين.
يتصرف النظام السوري مع «حماس» كما لو أنها «ذلك المرض»، الشيء الذي لا يجب أن يذكر اسمه، ومعلوم أن المرء يصعب عليه أن يذكر اسم خصومه حتى وهو يشتمهم، لكن العجب هنا أن تأتي على مديح أحد لكنك تأنف من أن تسميه.
ليس هنالك في العالم ما هو أكثر مرضاً من النظام السوري، نظام خبيث، يصعب أن تحزر كيف يمكن أن يتحرك ويتصرف وينمو.

راشد عيسى/  كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»

مقالات ذات صلة