لماذا تفوق إعلام المقاومة الفلسطينية على إعلام الاحتلال الصهيوني؟
ثمة مفارقة كبرى سجلت أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة على خلفية طوفان الأقصى، ففي الوقت الذي يحظى فيه الإعلام الإسرائيلي بإمكانيات ضخمة، ويدعم من قبل شبكة قنوات ووكالات ومحطات دولية، كان أداؤه في ساحة الحرب ضعيفا ومهزوما أمام إعلام المقاومة الفلسطينية المحدود الإمكانات الذي يشتغل في بيئة تمارس فيها إسرائيل شتى أنواع الحصار بما في ذلك الحرمان من الكهرباء وتدمير شبكة الاتصالات.
في الواقع، ثمة ما يدعو إلى بحث الأسباب التي تفسر هذه المفارقة، وكيف استطاع الإعلام المقاوم أن يصنع تفوقه، رغم الإكراهات المتعددة التي يفترض أن تقلل من فاعليته.
عمليا، ثمة في التقدير، على الأقل، أربعة عوامل ساهمت في تفوق إعلام المقاومة وهزيمة إعلام الاحتلال الإسرائيلي:
الأول، أن مدار العملية الإعلامية على المراسل والحدث، أي على الحقيقة كما تجري في الواقع، لا الرواية التي يتم فبركتها لدعم بروباغندا معينة. وفي هذه الحالة، فإن الشعب الفلسطيني في غزة، كله يمثل مراسلا طوعيا لفائدة إعلام المقاومة، سواء باعتباره حاضنا لها، أو باعتباره شاهدا على جرائم الاحتلال الصهيوني في غزة. ففي مقابل مراسلين حربيين غربيين متحيزين للرواية الصهيونية والأمريكية يتكلفون فبركة الحقيقة، ثمة جيش من المراسلين الغزيين الذين يشتغلون بشكل طوعي لنقل الصورة الحية التي تعبر عن الحقيقة التي يطلبها الإعلام. ما يفسر أكثر هذا العامل، أن الإعلام العربي، بمختلف قنواته، خاصة التي جعلت من حرب غزة حدثها الرئيسي المهيمن، بفعل التواصل مع شبكة متعددة مع المراسلين الفلسطينيين من غزة، استطاع أن يتفوق على مستوى مواكبة الحدث على أرض المعركة، وأيضا على مستوى الصورة.
الثاني، أن فصائل المقاومة الفلسطينية، ونخص هنا بالتمثيل حركة حماس، نجحت في إدارة العملية الإعلامية، وذلك بتبني مفهوم تعدد ووحدة وتكامل الفاعلين، والذي يعني عدم الاقتصار على واجهة واحدة في تصريف الخطاب الإعلامي، بل تنويع هذه الجهات بحسب التخصص، وتنسيق الوظائف، بالشكل الذي يضمن قدرا من الحيوية على العملية الإعلامية، فالمسؤول عن وزارة الصحة يقدم المعطيات المرتبطة بالشهداء والجرحى وحالة المستشفيات وحاجاتها ومدى قابليتها للخدمة، والمسؤول عن الداخلية، يقدم المعطيات عن المباني والبنى التحتية التي تعرضت للاستهداف، كما يقدم المعطيات عن الحاجات الأساسية للشعب الفلسطيني من الماء والكهرباء ومواد التموين، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يؤطر الجوانب السياسية الكبرى من خلال التفاعل الفوري مع الأجندات والمخططات التي يسعى الاحتلال أو الإدارة الأمريكية لتمريرها ضدا على مصالح الشعب الفلسطيني، وحركة حماس بلبنان عبر القيادي بحماس أسامة حمدان، تدير عملية التواصل السياسي اليومي فتنوب بذلك عن المكتب السياسي لحماس بالداخل (يحيى السنوار) والإعلام العسكري لكتائب عز الدين القسام، تقدم المعطيات العسكرية على الأرض بشكل موثق، فضلا عن بيانات عن سير العمليات، والناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام (أبو عبيدة) يمارس الوظيفة الإعلامية التفاوضية إن صح التعبير، إذ يتكثف حضوره في اللحظة التي يحضر موضوع التفاوض في الدوحة أو القاهرة، ويغيب في اللحظة التي تتوقف فيها عملية التفاوض.
هذه الإدارة المرنة المتعددة والمتكاملة، والتي تقوم بالأساس على مبدأ توزيع الوظائف وتنسيقها، لا تجد ما يقابلها عند الاحتلال الصهيوني، وذلك بسبب أجواء الانقسام السياسي التي تطبع الجسم الحكومي وعلاقة الحكومة بالمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية. فمن جهة هناك هيمنة كاملة ومطلقة للجيش على المعلومة، فجيش الاحتلال هو الذي يقدم كل المعطيات سواء منها العسكرية أو الصحية أو العلمياتية، بل وحتى السياسية التي تتعلق بالعملية التفاوضية وتدبير الحوار مع أسر الأسرى والمحتجزين وما يرتبط باليوم التالي للحرب وهو الذي مارس التضييق والتحكم على وسائل الإعلام حتى لا تسمح بخروج معطيات «تؤثر في السير الحربي» كما يلاحظ صراع بين الأجنحة على مستوى تصريف الخطاب الإعلامي، فقلما نجحت قيادات الحرب في الحضور بشكل مجتمع في ندوة صحافية، وفي الوقت الذي يتيسر ذلك، يبدو الخطاب الإعلامي لكل واحد منهم مختلفا عن الآخر، بل تتم تصريف إشارات تلمح إلى حالة من الفردية وتحميل المسؤولية للآخر، بما يعني في المجمل تشرذم الخطاب الإعلامي، وعدم تناسقه وتكامله. يظهر ذلك على مستوى عدم وحدة ووضوح الهدف الحربي لدى هذه القيادات، وأيضا عدم وجود رؤية موحدة بخصوص ما يسمى باليوم التالي للحرب. ويبقى الأمر الأكثر إثارة في إدارة العملية الإعلامية لدى الاحتلال الإسرائيلي هو كثافة تصريف المواقف عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية بصيغة النقل عن مسؤول إسرائيلي (مجهول) ووصول الخلاف في مضمون الخطاب الإعلامي إلى درجة من الاحتراب التي تفسر في الواقع حالة الانقسام والتوتر السياسي الذي تعمق أكثر داخل المجتمع الإسرائيلي منذ طوفان الأقصى.
العامل الثالث، يتعلق بالصورة، فالإعلام المقاوم امتلك خاصية امتلاك الصورة الحية، والتي كانت مادة التأثير القوية خاصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتحديد في منصات «التيك توك» التي تهيمن عيلها الأجيال الجديدة من الشباب. وإذا كان الخبراء العسكريون يقرون بتفوق الإعلام العسكري لكتائب القسام بحكم تقديمه للصورة الحية التي تتضمن جانبي الحرب معا، بحيث تظهر العملية المقاتل والهدف وأسلوب الاستهداف، ونتيجة العملية، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تغذت أكثر على الصورة الإنسانية الموثقة، والتي تثبت مختلف الجرائم التي كانت الدول الغربية المتحيزة لإسرائيل تحاول نفيها عن الاحتلال باسم حقه في الدفاع عن النفس، فالأجيال الجديدة التي تشتغل بشكل حيوي في منصات التواصل، أضحت تستعمل الدليل الأقوى الذي غير مزاج العالم بشكل كامل، وجعل استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية خاصة إسبانيا وبلجيكا والدول الإسكندنافية، تنقلب بشكل مفصلي لصالح دعم معاناة الشعب الفلسطيني بدل التحيز لدولة الاحتلال.
العامل الرابع، يتعلق بتنويع مضمون المادة الإعلامية، فلم يقتصر إعلام المقاومة على بث الصور والفيديوهات التي تركز على سير العمليات العسكرية، فهذا الجانب في الواقع، يهم أكثر الإعلام العربي، المسكون بحلم إمكان هزم إسرائيل وأسطورة «جيشها الذي لا يقهر» إنما كان التركيز هذه المرة، وبشكل أكبر، على المعاناة الإنسانية في قطاع غزة، وبالتالي مخاطبة القطاع الواسع من المجتمع الإنساني. تفسير هذا العامل، أن التغيرات الفكرية والقيمية التي حدثت في العالم، أنتجت جيلا غير مؤدلج، لكنه في الوقت نفسه، أشد حساسية فيما يتعلق بحقوق الإنسان الأساسية، أي الحقوق التي لا تقبل تفسيرا إيديولوجيا، وبشكل خاص، الحق في الحياة، والحق في الغذاء، والحق في الماء، وحق الأطفال في حياة هادئة وفي التمدرس، وغيرها من الحقوق الأساسية التي انتهكها الاحتلال، ووصل بسياسته العدوانية إلى درجة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. لقد اشتغل الإعلام المقاوم بكثافة على هذه المادة، فقدم المعطيات: الوثائق والصور والإثباتات التي تؤكد وجود مخطط إسرائيلي أمريكي غربي لتدمير شعب بأكمله، بتجويعه وتعطيشه وإبادته حتى يسمح لإسرائيل بالتمدد وتحقيق أهدافها التوسعية.
لقد أثمر الاشتغال على المادة الإنسانية انتفاضة المجتمع الإنساني الدولي، ومحاصرة الكيان الصهيوني، ووفر الأمل، بإمكان أن تسير محاكمة إسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي المسار الصحيح، فتحكم على الأقل، إن لم تستطع إدانة إسرائيل بالإبادة الجماعية، بوقف فوري للحرب على قطاع غزة.
بلال التليدي/ كاتب وباحث مغربي نقلا عن القدس العربي