اكتشافات مذهلة لكنها تافهة
من يتابع بين الفينة والأخرى ما يدور في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض المؤلفات الجديدة يجدها تقدم نفسها على أنها تسعى إلى طرح ما تدعي أنه اكتشافات جديدة في قضايا تتعلق بالقرآن الكريم، أو بالحديث النبوي، أو بالتاريخ الإسلامي أو باللغة العربية، وأن الكتابات السابقة ظلت تخفيه عنا تلاميذ وطلابا وقراء لأسباب لا يعرفها إلا هم. إن هذه الاكتشافات تبدو لنا مذهلة بمعنى أنها لا تتأسس على بحث علمي دقيق ومتأن، يضطلع به من قضى ردحا طويلا من الاستقصاء والجهد. إنها أحيانا عبارة عن شطحات تأويلية أو استنساخات لما قيل قديما أو حديثا، لكن طريقة تقديمها، من لدن أصحابها، لأغراض غير بريئة، توهم غير المتتبع أنها حقائق جديدة فعلا، وإن كان لا يعلمها، في الواقع، في أحيان كثيرة، إلا مقدمها. وهذا النوع من «الاكتشافات» التي تقدم إلينا على أنها «حقائق» جديدة، بهذه الكيفية، يهيمن فقط لدى من يتحدثون باللغة العربية، مغاربة ومشارقة، ونجدهم فرحين بما يقدمونه، ومبتهجين بكشوفاتهم العبقرية التي غابت عن مختلف من تناول تلك القضايا في كل الأزمنة، التي يحومون حولها، وأنهم أجدر بأن تنسب هذه الحقائق الجديدة إليهم، وتسجل في سجلات مغيري الأفكار، و»المؤثرين» في الأجيال الجديدة.
نجد هذا النوع من الاكتشافات كذلك في بعض الكتابات الأجنبية، خاصة في ما يتصل بالدين عموما، وبالكتاب المقدس خاصة. لكن مع فارق أساسي هو أن مقدميها يستندون في ذلك إلى بحوث سابقة، ويعملون على تطويرها بما تمدهم به نتائج جديدة في الحفريات، أو في العثور على نصوص مكتشفة حديثا، كما أنهم يلجؤون إلى المقارنة لإثبات حصيلة أعمالهم. ويعمد من يسير في هذا الاتجاه إلى اعتماد طرائق البحث العلمي في طرح الوثائق وقراءتها بشكل موضوعي. وسواء نجح هؤلاء في الإقناع أو لا، نجد متعة في تداول الأفكار ومناقشتها والحجاج بخصوصها، ورغم اختلاف هؤلاء الباحثين عن نظرائهم من المدعين العرب، نجد اكتشافاتهم مذهلة أيضا، وكنظيرتها بلا قيمة، وتافهة.
قد يعترض بعضهم بالقول: كيف تساوي بين المتحذلقين والعلماء ما دامت هذه الأبحاث ذات الطبيعة العلمية تقدم حقائق جديدة، خاصة في ما يتصل بالمسائل الدينية، بكشفها عن أكاذيب أو ادعاءات باطلة هيمنت ردحا طويلا من الدهر بقصد أو عن حسن نية؟ وما الذي يجعلك تؤكد أنها مذهلة بالمعنى السلبي للكلمة، وتستدرك بقول إنها تافهة؟ جوابا على هذه الاعتراضات الوجيهة، أميز بين الاكتشافات التي تقدم نتائج أبحاث تسهم في تغيير المعلومات المتداولة لدى المجتمعات العلمية، وتقدم أشياء جديدة لم تكن معروفة سابقا. وهذا النوع وليد الأبحاث العلمية في العلوم الحقة بالدرجة الأولى والأخيرة. أما ما يعد اكتشافات في غيرها من العلوم، خاصة ما اتصل منها بالعلوم الدينية والتاريخية فليس في أغلب الأحوال إلا قراءات تأويلية لإثبات تصورات أيديولوجية معارضة.
نتساءل مثلا: ماذا يفيد الجواب عن: ما هي مدة حمل مريم العذراء؟ أو هل إمارة نكور عربية أو بربرية؟ أو أن الحمض النووي للمغاربة المهيمن أمازيغي؟ أو من هم ياجوج وماجوج؟ وما مصيرهم؟ وما شابه هذا من الموضوعات التي يخوض فيها بعض الشيوخ أو مدعي الحداثة. هذ النوع من الموضوعات لا يمكن أن يستفيد منه العلماء المختصون، ولا يغير من الأمور شيئا، سواء عرفناها أم لم نعرفها. وقديما ميز العرب بين العلم النافع وغير النافع. و»العلم» غير النافع ليس فقط تزجية للوقت، لكنه أيضا تحريف للأنظار عن الموضوعات الجديرة بالبحث، التي تهم المواطنين في حياتهم اليومية، وللأسف نجد أن بعض هؤلاء الحلايقية الافتراضيين يملؤون الفضاء الشبكي يوميا بمثل هذه القضايا غير المجدية. هل يمكننا القول إنهم يقومون بها عن طريق الإلهاء عما هو جوهري في الحياة؟ وهذا النوع من أشباه المثقفين موجود أبدا. وتقدم لنا بعض الكتب العربية القديمة بعض الأخبار التي كان يعرضها أمثال هؤلاء «المؤثرين» اليوم في باب الحكايات والنوادر. منها أن أحد الوعاظ الشعبيين، وهو يحكي قصة سيدنا يوسف، قال لجمهوره: إن الذئب الذي أكله اسمه كذا. فقيل له: إن يوسف لم يأكله الذئب. فكان جوابه المتحذلق: إنه اسم الذئب الذي زعم إخوة يوسف أنه أكله. إن «الاكتشاف» الذي يريد هذا الراوي إبهار جمهوره به هو اسم الذئب. ولما نُبِّه إلى ما غفل عنه من باب الاعتزاز بالاكتشاف، جعل الاسم للذئب المتهم. هذا هو ما يقوم به مثل هؤلاء الأدعياء: يلوون أعناق النصوص، ويتأولونها باعتماد بعض المواد، وتضخيمها على أنها إنجاز. فماذا يفيد المسلم اسم الذئب الذي اتهم بأكل يوسف؟ وبماذا يفيد القارئ الذي لا يعرف شيئا حتى عن وجود إمارة في نكور أن تكون أمازيغية لا عربية؟ وإذا ما اقتنعنا بما يذهب إليه هذا المؤرخ بأنها أمازيغية بماذا تنفع، حتى وهي «حقيقة» تاريخية، الواقعَ مغرب اليوم؟ فهل يمكننا تصحيح التاريخ وتجديده بمثل هذه الاكتشافات المذهلة والتي لا قيمة لها؟
سعيد يقطين- أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط/ نقلا عن القدس العربي