مجازر إسرائيل وأنباء المبنيّ للمجهول
كثيرا ما تثير انتباه المتابع للخطاب الإعلامي الغربي، كلما تعلق الأمر بالمسائل المعقدة أو المثقلة بالمصالح المتناقضة، عبارات متكررة وصياغات متفننة ومفردات ونعوت محسوبة موزونة ودلالات منطوق بها أكثر من اللزوم في مقابل دلالات مسكوت عنها بكل تصميم. وينجم عن ذلك كله شعور قوي عند القارئ أو السامع أن هذه العبارات إنما هي قناع لغوي يخفي أحكاما مضمرة وتحيزات مسبقة وموازين مطفّفة لصالح طرف ضد آخر. وما يبقى عند المتابع مجرد انطباع مُجْمل يمكن، إذا تم تناوله بالبحث العلمي، أن يترجم إلى حقائق مفصّلة قابلة للتبيان والبرهنة. ولا شك أن ما يعرف بـ”تحليل المحتوى” هو المنهج الأجدى في هذا الشأن. ولذلك فهو من أكثر المناهج البحثية شيوعا في كليات الإعلام، أي الكليات التي يدرّس فيها الإعلام، تاريخا ومؤسسات وممارسات، باعتباره مبحثا من مباحث العلوم الاجتماعية (وذلك في مقابل تدريس الصحافة باعتبارها فنا تطبيقيا في الكتابة التبليغية والتحرير الإخباري والإنتاج الإذاعي والتلفزي). وأكيد أن رسائل جامعية في تحليل المحتوى سوف تتخذ التناول الإعلامي الغربي للحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة مادة لاستخراج حقائق حول الآليات الذهنية والازدواجية القيمية (ما يسمى بسياسة الكيل بمكيالين) لهذا الإعلام المشكّل لتوجهات الرأي العام الغربي والمحدد لرؤية الأمم الغربية للعالم ولموقفها (العنصري في أغلب الحالات) من عموم الإنسانية.
ولعل أشد ما يثير الانتباه منذ السابع من أكتوبر أن الإعلام الغربي، والمقصود بالتحديد هو الإعلام الأمريكي والبريطاني والفرنسي، يبدي حرصا شديدا كلما تحدث عن القتلى والجرحى والأسرى الإسرائيليين أن ينسب المسؤولية كاملة واضحة لحركة “حماس، المنظمة الإرهابية” أو إلى “إرهابيّي حماس”، بل إنه يبدأ دوما بتذكير الجمهور (خوفا عليه من آفة النسيان) بأن حماس بادرت وبدأت وفعلت وأجرمت في حق الإنسانية كلها. ولا تزال كثير من النشرات الإخبارية التلفزية تستهل، إلى اليوم، بالبث المكرور للفيديوهات التي توثق اقتحام المقاتلين الفلسطينيين للبلدات الإسرائيلية وأخذهم الأسرى مع فيديوهات العائلات الباكيات. وبما أن بين الأسرى إسرائيليين أمريكيين وفرنسيين وبريطانيين فإن المسلسل لا ينتهي. أما عندما يتعلق الأمر بحملة الهجمات الإسرائيلية الماحقة فإن آثارها، أي جرائمها وضحاياها وجرحاها (بما في ذلك القتلى داخل المستشفى الأهلي في مدينة غزة)، لا تنسب لفاعلها والمسؤولية لا تحمّل لمقترفها، وإنما ينسب كل ذلك للمجهول، كأنه محض كارثة طبيعية. وهكذا تقول النيويورك تايمز، مثلا، في مقدمة أحد تقاريرها: “توفي المئات في انفجار في مستشفى في غزة، وهذه خسارة كبرى في الأرواح ألهبت (المشاعر) في المنطقة”. هل لاحظت المجهولية واللا-شخصية؟ هل لاحظت معجزة حدوث الفعل رغم انعدام الفاعل؟ إنها أشياء حدثت بذاتها ووقائع فعلت فعلها بنفسها. فتصور لو أن حماس هي التي قصفت مستشفى في إسرائيل، هل كانت الجريدة تستخدم النسبة للمجهول؟
أما العناوين (وهي منقولة حرفيا من جرائد غربية): فإن معظمها أتى على هذا النحو: مئات القتلى في انفجار في مستشفى فلسطيني؛ محنة في غزة؛ الأزمة في غزة؛ الدبلوماسيون يسارعون لتخفيف الأزمة في غزة؛ إسرائيل في زمن الحداد والخيارات الاستراتيجية؛ غزة: بلبلة النزوح الجماعي تحت القنابل؛ غزة: جلاء السكان؛ طبول الحرب حول غزة. ورغم مضي حوالي أسبوعين على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن مجلة لوبوان لا تزال متفجعة على إسرائيل، حيث كتبت في العدد الأخير: “دور الصحافيين هو أن يكونوا شهودا على النزاعات (..) لهذا السبب أرسلنا منذ 7 أكتوبر وهجوم حماس على إسرائيل عدة صحافيين لتغطية عواقب هذا النزاع وتداعياته. وقد ذهب أحدهم (..) إلى إسرائيل، التي قررت فتح أبواب المشارح التي تتكدس فيها جثث ضحايا حماس. تقرير مؤثر”.
وما هو تفسير هذا النزاع؟ جواب المجلة: “كراهية اليهود”…! فالقضية بأسرها هي قضية حقد دفين ونفوس مريضة… ولهذا برّأت المجلة ذمتها بأن كتبت في افتتاحيتها: “كلنا إسرائيليون” (تماما مثلما كتبت لوموند يوم 12 سبتمبر 2001: “كلنا أمريكيون”). أما معلقها الألمع فرانز أوليفيي جيزبير فقد اقتبس من برتولد بريخت عبارة “الوحش النجس” لوصم اللاسامية التي قال إنها كل لا يتجزأ، أوروبية كانت أم عربية. وقد بدأ بنبش حكاية اللقاء بين الحاج أمين الحسيني وهتلر، ثم ختم بزعم أن فلسطين لم يكن لها وجود، وأن الدول العربية قررت اختلاق كلمة “الفلسطينيين” اختلاقا في بداية الستينيات!
مالك التريكي/القدس العربي