الشاوي يكتب.. المنظومة “الاشتراكية” المغاربية
يمكن اعتبار المغرب ضمن التشكيلة المغاربية “صيغة” شبه استثنائية، اعتباراً لثلاثة مستويات، تمثل في تجاربه العامة حلقاتٍ بنيوية مهمة: أولها نظام الحكم الذي عُدّ منذ استقلال 1956 بمقتضى دستور 1962 (ملكية دستورية وديمقراطية اجتماعية)، بينما سادت في باقي الدول المغاربية الأخرى أنظمة رئاسية، لها مميّزات خاصة بها، طبعت مسارَها العام، وانعكس اختيارها على أنظمتها السياسية الاجتماعية والاقتصادية والمؤسّساتية جملة وتفصيلاً. أما المستوى الثاني فهو المتعلق بالتعدّدية السياسية التي لم تُبن، في الواقع، على أي اختيار ديمقراطي، بل على ما كان في تجربة النضال الوطني، وفي بنية الحماية نفسها من تعبيرات سياسية مختلفة ومتناقضة، تحوّلت، بعد الاستقلال، وخصوصاً في فترة من الصراع الحادّ طوال أربع سنوات على المغانم التي تمخّضت عنه، وهي التي صار لها وجود فعلي بالنص الدستوري والقانوني، فتهيكلت على ضوء اختيارات وتوجهات واضحة وشرعية، إلى أن أعلنت حالة الاستثناء في 1965. أما المستوى الأخير فهو الاختيار الليبرالي على الصعيد الاقتصادي (اقتصاد السوق)، انطلاقاً من البناء الرأسمالي التبعي الذي أوجدته الحماية في اقتصاد البلاد.
والمُلاحَظ أن المغرب لم يحد عن هذه المستويات إلا لماما، رغم التغيّرات البارزة التي طبعت مساره، كما أنه سعى في مجراه التطوري إلى ترسيخها بكثير من الإجراءات الاحترازية حتى أصبحت عنواناً على توجه مختلف لم تعرف دول المغرب الأخرى مثيلاً له. ويعود ذلك، فيما أرى، إلى عاملين مهمين: ارتباط الملكية التاريخية بالحركة الاجتماعية الوطنية المغربية الحديثة، وإلحاح المَلِك الجديد بعد الاستقلال على إقامة “النظام الديمقراطي”. العامل الثاني مرتبط بـ”الوصاية الفرنسية” المتغلغلة في الإدارة وفي الاقتصاد، وعلى المستوى اللغوي كذلك، وأساساً في الارتباط بالتوجه الليبرالي للحماية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية.
وليس في الجزائر ما قد يشهد على هذا المثال، بحكم التطوّر المختلف الذي انبَنَت عليه “الدولة الوطنية” بعد الاستقلال. ومنذ أن انفردت المؤسّسة العسكرية بالسلطة، غداة إطاحة الرئيس أحمد بن بلّة، أصبح في حكم المؤكّد أن الاختيار الغالب سيكون على منوال ما كانت عليه التطوّرات والاختيارات ذات الطبيعة “التحرّرية”، ناصرية وبعثية بالخصوص، في المشرق العربي، بعد إسقاط الملكيات والإمامة، وكذا بروز الدور الحاسم للقضية الفلسطينية في صياغة بعض التأثيرات الداعية إلى التحرّر من العدو القومي، المدعوم بالاستعمار القديم والإمبريالية العالمية.
ولذلك انحازت القيادة العسكرية الانقلابية إلى “النموذج العربي” المعروض في مناخ سياسي أريد له أن يكون استمراراً “طبيعياً” وأيديولوجياً لمعنى الحرب التحريرية في ميدانين جديدين، التنمية الاقتصادية والتغيير الاجتماعي. هذا إلى جانب تلك الدعوات المسموعة لدعم النضال الأفريقي ضد الإمبريالية والصهيونية، فضلاً عن تحويل العاصمة الجزائرية إلى مقرّ رسمي لحركات التحرير، ومنفى أممي لبعض المطاردين في بلدانهم… إلخ. من دون أن يتخلى نظام بومدين عن قمع مختلف المعارضين، وإسكات رفقاء الأمس بالقوة.
ولا يمكن أن يُحْسَب للقيادة العسكرية تلك العملية المتهافتة الرامية إلى “مكننة الفلاحة”، وتطوير الصناعة الثقيلة المحلية، بفعل الثروات التي وفرها البترول، ثم الغاز في خزائن الدولة، لأنها تبخّرت في وقت وجيز، وانهارت تماماً عندما شحّت، بالإضافة إلى ما لحقها من فساد. ومع ذلك، لم تخفت صيحات الاشتراكية و”العسكرة” ذات الطبيعة الأيديولوجية الوهمية، ولم يكن للديمقراطية الشعبية، المُتَغَنّى بها في كل مَحْفَل، أي أثر في الحياة العامة، ولا على صعيد المؤسّسات التي كانت تتشدّق بعدد الشهداء، وبالتحالف المكين مع القوى الاشتراكية على الصعيد العالمي، مدّعية في ذلك قدرتها على الزعامة، وسعيها إلى قيادة “التقدّم” تحت ستار عدم الانحياز في بعض الأحيان.
وعلى الحدود بين المغرب والجزائر، لم تُظهر تجربة موريتانيا، بعد الاستقلال عن الفرنسيين، أياً من وجوه الاختلاف مع محيطها المؤثر في أوضاعها، فكانت تجربة استثنائية، لأنها لم ترس نظاماً رئاسياً قوياً يتمتع بالديمومة بعد الاستقلال عن فرنسا، بتسوية سياسية مكلفة، يضاف إلى ذلك أن مؤسستها العسكرية لم تكن متطورة ولا مهيكلة بالقدر الكافي. وسرعان ما أصبحت الدولة، بعد استقرار نسبي، عرضة لانقلابات متتالية، دون أن يكون للمجتمع السياسي، المكوّن من أحزاب حديثة بنياتها ضعيفة، أي دور على مستوى التنظيم والتأطير والتوجيه. والظاهر أيضاً أن موريتانيا مع بروز القضية الصحراوية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وإعلان ما سمّي بـ”الجمهورية الصحراوية”، أصبحت في معترك سياسي، لا تملك فيه أية استراتيجية ترسم اختياراً لوجودها ولقدراتها العسكرية والاقتصادية، عرضة للمخطّطات الإقليمية: الجزائر التي تسعى إلى احتوائها رغم الحماية الفرنسية. والمغرب، وإن كان قد اعترف باستقلالها في القمة الإسلامية عام 1969، بعد المطالبة بضمّها، أراد أن يجعل منها قاعدة خلفية لمواجهة الأخطار التي كانت تحدّق به من الجنوب. وليبيا، مع الطيش الذي استبدّ بزعيمها الجديد في إدارة شؤون ليبيا بعد الانقلاب على الملكية، هدّدت وجودها أصلاً برغبة رعناء في تحويلها إلى معبرٍ يقود إلى السيطرة على دول إفريقية أخرى.
والحقيقة أن قيام نظام القذافي المدعوم من “الناصرية” لم يكن، منذ الانقلاب على الملكية السنوسية بطريقة سهلة، إلا التعبير المؤكّد عن انهيار “نموذج” الحلم الاشتراكي المسنود بـ “رأسمالية الدولة” (الناصرية) في مرحلة بات فيها الانفتاح على منظوماتٍ فكرية، أخرى، بعد انقشاع الأحلام التحررية، أمراً وارداً استعادت به التصورات الرأسمالية البراغماتية قوتها في دعم كثير من التحولات الاجتماعية والاقتصادية في “البلدان النامية”… بفوائد جمّة تحكّمت فيها البنوك والمؤسّسات الدولية المانحة، فقيدت حركة النمو وحولتها إلى ما يشبه تدبير الأزمات الظرفية، فغدت “التوجّهات الاشتراكية”، بصرف النظر عن تطبيقاتها المفتعلة، مجرّد سحابة أيديولوجية عابرة.
أما التجربة التونسية فقامت، منذ البداية، على اختيار ليبرالي موروث استنبته الرأسمال الفرنسي لتسيير مجالات الاقتصاد الوطني، وبصورة خاصة في مجالي صناعة الخدمات والنشاطات الاقتصادية غير الربحية. ولذلك تميّزت على نحو خاص بتدخل الدولة (الاقتصاد المُوَجّه)، بسبب الضعف العام لبنيات الاقتصاد المحلي، واعتماده الكلي على مصادر الطاقة الأجنبية، رغم الاهتمام الذي أولاه النظام، في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، لتطوير التوجّه الليبرالي (الوطني) ثلاثة عقود. كما أن التجربة التونسية في المجال السياسي، تحديداً، بقيت مشدودة إلى الإرث الفرنسي (اليعقوبي) مع وجود أنوية أيديولوجية وتنظيمية صغرى، بما في ذلك الحزب الشيوعي، وخصوصاً في مراحل “التصفية السياسية”، والقضاء على نظام “البايات” التي أعقبت الاستقلال في أواخر الخمسينيات. فهذه لم تُحدث من حولها أي تغيير في الثقافة السياسية التي كان لها في الستينيات، في التجربة المصرية، بحكم السبق التاريخي، على سبيل المثال والقرب الجغرافي، الدور المؤثر، من خلال التعبئة الأيديولوجية، في إحداث كثير من التغييرات المطلوبة، وبلورة الاختيارات الجوهرية ذات الطابع المستقبلي في الاقتصاد، وعلى صعيد المجتمع.
والحاصل أن المحاولات الاشتراكية والليبرالية في مختلف البلدان المغاربية، على اختلاف توجّهاتها وطبيعة أنظمتها، كانت رمزية من الناحية الأيديولوجية. مزيج من المفاهيم الساذجة عن الثورة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات الوطنية، بناءً على القاعدة التي شاعت بين النخب، أي “إغناء الفقير وعدم تفقير الغني”. والنتيجة المنطقية لهذه الصيغة أنها كرّست الفوارق الطبقية وأوجدت، كذلك، طبقات اجتماعية، ولو أن تكوينها هشّ وهجنتها كبيرة، انتعشت ونمت في ظل الفساد والريع، فضلاً عن الارتباط العضوي بالدولة الوطنية التي تُؤَمِّنُ وجودها وتُغَذّي طموحاتها.
وفكرتي أن ما يمكن تسميته “الطريق المغاربي إلى الاشتراكية”، أو إلى الليبرالية، سيّان، أثبت بطلانه، في الواقع، مع التجربة الناصرية بعد هزيمة 1967 التي حاولت التغلغل في بعض الدول عن طريق المخابرات لا عن طريق الفكر الأيديولوجي. أضف إلى ذلك أن الطريق إيّاه لم يندرج كلية، من حيث الولاء والتحالف، في المنظومة المتصارعة في فترة الحرب الباردة، فكان الانحياز إلى “العالم الثالث” اختياراً ظرفياً، سياسياً وعابراً، لا علاقة له بالتنمية ولا بالنهوض الاقتصادي، ولا بالاختيار الأيديولوجي التحرّري لمواجهة التغلغل الرأسمالي في بلدانها المتخلفة.
جدير بالتأمل أن البلدان المغاربية لم تنتج، في الواقع، أي فكر سياسي، أو تنظير اقتصادي متبلور مبني على فرضيات تنموية للبناء الاشتراكي أو لغيره. هذا رغم وجود أحزابٍ وطنية انبثقت عن “الحركات الوطنية الاستقلالية”، وأخرى شيوعية لها تاريخ نضالي قديم نسبياً. التفسير الممكن أن انهيار الأحزاب الوطنية تحت ضربات الدولة الوطنية من ناحية، والتبعية المؤكّدة للمعسكر الاشتراكي للشيوعية منها، بالإضافة إلى الحصار الذي قوبلت به كلها، إلى جانب الطبيعة الدينية للمجتمعات المغاربية أصلاً، جعلها تستكين، في حالٍ من الضعف والجمود، فضلاً عن الاحتواء، إلى الشعار المركزي (الثورة الوطنية الديمقراطية) الذي كفَّن مختلف تطلعاتها الاقتصادية والفكرية، ثم جاءت التصوّرات البراغماتية الناشئة في حضن العولمة المفروضة فدفنتها بصفة نهائية.
عبد القادر الشاوي