“جيل المنصّات والتحول السياسي: أسئلة الشباب في زمن الرقمنة”
بقلم: د. عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
يشهد العالم اليوم تحولا رقميا عميقا يعيد تشكيل بنية المجتمعات، ويغيّر على نحو جذري علاقة الأفراد بالمعرفة والسياسة والفضاء العام. وفي قلب هذا التحول يقف الشباب باعتبارهم الفاعل الأكثر تفاعلاً مع التكنولوجيا، والأكثر تأثراً بمنطق المنصّات الذي لا يخضع لحدود الزمان والمكان.
لقد أصبح الجيل الجديد مرآة لهذا العصر الرقمي، يعبّر من خلاله، ويكتشف ذاته، ويعيد صياغة علاقته بالشأن العام بطرق لم تعهدها الأجيال السابقة.
إن التحول الرقمي لم يعد مجرد تطور تقني، بل أصبح نموذجاً جديداً في التفكير والتواصل، ومفتاحاً لفهم سلوك الشباب المعاصر.
فالسؤال الأول الذي نطرحه اليوم هو: كيف غيّر الفضاء الرقمي طريقة تفكير الشباب؟
لقد رسّخت المنصّات الإلكترونية نمطاً من التفكير يقوم على السرعة، ردّ الفعل، والانفعال اللحظي، بدل التحليل المتأني وبناء المواقف، كما أنتجت الخوارزميات “فقاعات معرفية” تجعل الشباب محاصرين في دوائر اهتمام ضيقة، يتلقون فيها المعلومات التي تتوافق مع آرائهم، مما يضعف قدرتهم على النقاش الهادئ وعلى تقبّل الاختلاف. ومع ذلك، أتاح لهم هذا الفضاء حرية غير مسبوقة للتعبير عن الذات واكتشاف الهوية، حتى أصبح كثير منهم يعرف نفسه عبر الشاشة أكثر مما يعرفها عبر التجربة الواقعية.
ولا يقلّ أهمية عن ذلك سؤال آخر: لماذا يفضّل الشباب النقاش الرقمي على الانخراط السياسي التقليدي؟
إن الفضاء الرقمي يوفر جاذبية خاصة: حرية تامة، غياب الوساطة، إمكان الوصول إلى جمهور واسع، ونتائج آنية تُقاس بعدد التفاعلات. بينما تبدو السياسة التقليدية بالنسبة لعدد كبير من الشباب فضاءً بطيئاً، متثاقلاً، محكوماً بالتراتبية والبيروقراطية، فالشباب يريدون تأثيراً سريعاً، صوتاً مسموعاً، ومساحة للتحرّر من القيود، وهذا ما توفره لهم المنصّات بشكل مغرٍ ومستمر.
ومع ذلك، فإن هذا الوضع لا يخلو من التباسات. فالتحول الرقمي لم يأت فقط بوعود المشاركة، بل جاء أيضاً بمخاطر واضحة على الوعي السياسي للشباب.
ولعل أبرز هذه المخاطر هو انتشار الأخبار الزائفة التي تصنع قناعات هشّة وسريعة التغيير، إضافة إلى هيمنة المؤثرين الذين يقدّمون محتوى مبنياً على الترفيه والتسويق أكثر مما هو مبني على المعرفة والحجّة، ومع مرور الوقت يصبح الشباب تحت ضغط “صناعة الترند”، حيث تغدو القضايا السياسية مجرد لحظات عابرة لا تبني وعياً حقيقياً ولا مواقف ثابتة.
من هنا تبرز الحاجة إلى سؤال ثالث:
كيف يمكن أن يتحول الفضاء الرقمي إلى مجال للتربية السياسية بدل أن يكون فضاءً للسطحية؟
إن الأمر يتطلب جهداً واعياً يقوم على نشر المعرفة السياسية المبسطة، وإنتاج خطاب يدمج بين العمق والوضوح، واستعمال أدوات رقمية مبتكرة لشرح المفاهيم الديمقراطية، ونشر قيم الحوار، واحترام الاختلاف، والقدرة على تحليل الأخبار بعيداً عن الانفعال.
وإذا عُدنا إلى طموحات الشباب في عصر الرقمنة، نجد أنهم يتساءلون: ماذا ننتظر من السياسة اليوم؟
الشباب يريدون:
وضوحاً في الخطاب بدل اللغة الخشبية.
رؤية مستقبلية بدل التكرار.
فضاءً يثمّن طاقاتهم ويمنحهم دوراً في صناعة القرار.
مشاركة حقيقية لا رمزية.
احتراماً لذكائهم ولنمط عيشهم الرقمي.
وما بين هذه التطلعات والواقع، يظهر أن الفجوة ليست تقنية فقط، بل قيمية ومعرفية.
فالسياسة تجد نفسها اليوم أمام جيل يرفض أن يُعامل كملحق أو مجرد جمهور، بل كفاعل يمتلك أدوات جديدة للتأثير والمساءلة. وهذا الجيل، مهما ابتعد عن الانخراط التقليدي، لا يمكن اعتباره غير سياسي؛ بل هو سياسي بطريقته الخاصة، عبر مشاركته في النقاشات الرقمية، وتفاعله مع القضايا العامة، وصناعته لخطابه الخاص.
إن هذا التحول يجعل من الضروري إعادة تعريف المشاركة السياسية نفسها، لم تعد المشاركة مرتبطة بالعضوية، والاجتماعات، والبيانات؛ بل أصبحت ممتدة إلى التعليق، والمحتوى الرقمي، والتصوير المباشر، وحملات الضغط عبر الشبكات. وهنا تكمن القوة الجديدة للشباب: قدرتهم على جمع الرأي العام في ساعات قليلة، وتحريك النقاش الوطني من هاتف صغير.
في المقابل، يطرح التحول الرقمي أسئلة حقيقية حول مستقبل الهوية والخصوصية.
فالذات الرقمية أصبحت في كثير من الحالات أقوى حضوراً من الذات الواقعية، وأصبح الشباب معلّقين بين عالمين: عالم واقعي يفرض قوانينه، وعالم افتراضي يتيح لهم إعادة تشكيل صورتهم كما يشاؤون. هذه الازدواجية تخلق توتراً في الوعي، لكنها تفتح أيضاً إمكانيات جديدة للتعلم، والاكتشاف، وبناء الذات.
كما أنّ التحول الرقمي أعاد صياغة علاقة الشباب بسوق الشغل، فقد برزت مهن المستقبل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وصناعة المحتوى، وتحليل البيانات، والأمن السيبراني، مما يجعل الرقمنة ليست فقط ظاهرة ثقافية، بل أيضاً ظاهرة اقتصادية تؤثر في مستقبل العمل وفي التطلعات المهنية لجيل كامل.
وفي إطار هذه الصورة المركبة، يصبح السؤال النهائي: كيف يمكن للشباب أن يساهموا في بناء ديمقراطية جديدة في زمن التحول الرقمي؟
الجواب يكمن في المزاوجة بين الفضاءين:
استخدام الرقمي كأداة للنقاش والتوعية.
استخدام الواقع كفضاء للمشاركة والفعل والتغيير.
إن الجيل الرقمي قادر على إحداث ثورة إيجابية في الفضاء العام إذا توفرت له المعرفة، وقنوات المشاركة، والقدرة على الربط بين الحرية الرقمية والمسؤولية المجتمعية.
وخلاصة القول، نحن أمام جيل لا يشبه أحداً، يعيش في عالم متسارع، ويصنع هويته ومواقفه عبر شاشة صغيرة لكنه يحمل في داخله أسئلة كبرى: عن المعنى، والمستقبل، والعدالة، والكرامة، والمشاركة.
إنه جيل يحتاج إلى الإصغاء، لا إلى الوصاية؛ وإلى الاعتراف، لا إلى التهميش؛ وإلى فضاء يواكب طموحاته ويمنحه فرصة ليكون فاعلاً في زمن تُكتب فيه السياسة بكبسة زر.
بهذا المعنى، يصبح التحول الرقمي ليس فقط تحدياً فكرياً، بل لحظة تاريخية لإعادة بناء علاقة الشباب بالسياسة، على أساس الحرية، والمعرفة، والابتكار، والقدرة على خلق مسارات جديدة للمشاركة الديمقراطية في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.



