باحثون من دول متعددة يجتمعون لتفكيك التفاعل التاريخي بين التراث اليهودي والمسيحي والفكر الإسلامي

نظّم مختبر الأبحاث والدراسات الثقافية والاجتماعية اللقاء التواصلي الدولي الثاني حول موضوع: “التراث اليهودي والمسيحي في سياق الحضارة العربية الإسلامية”، وهو لقاء علمي يسعى إلى تسليط الضوء على حضور الموروث الديني اليهودي والمسيحي ضمن المجال الحضاري الإسلامي، وما رافق هذا الحضور من تفاعلات معرفية وفلسفية ولغوية. وقد شكّل هذا الموعد العلمي مناسبة لتجديد النقاش حول التأثيرات المتبادلة بين مكوّنات هذا الفضاء الحضاري، وبيان حيوية الدراسات المقارنة في إعادة قراءة التراث الديني المشترك. وقد تميّز اليومُ الافتتاحي بحضور نخبةٍ من الأساتذة والباحثين من داخل المغرب وخارجه، شاركوا في فعالياته بنظامَي الحضور المباشر والمداخلة عن بُعد، مما أضفى على اللقاء طابعاً علمياً منفتحاً ومتعدّد المقاربات.

افتُتحت أشغال اليوم الأول بتلاوة آيات من الذكر الحكيم بصوت الطالب الباحث الشريف الكليتي، في إيذانا على انطلاق هذا اللقاء العلمي. وألقى بعد ذلك السيد نائب عميد الكلية كلمة ترحيبية ثمّن فيها الجهود المبذولة في تنظيم هذا المحفل الأكاديمي، مشيراً إلى أن استمرارية هذه اللقاءات الدولية دليل على نضج البحث في موضوعات التراث الديني في الجامعة المغربية. ثم تناول الكلمة الأستاذ الدكتور سعد الدين أكمان، مدير المختبر، فأكد على محورية اللقاء في الدفع بالدراسات العابرة للتخصصات، مبرزاً أنّ التفاعل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الدينية ضرورة منهجية لفهم قضايا التراث وفهم آليات إنتاج المعرفة في الحضارات القديمة والوسيطة. كما قام الأستاذ الدكتور سعيد كفايتي، منسّق فريق البحث في تاريخ الأديان والعلوم الاجتماعية، بتقديم كلمة توجيهية أبرز فيها قيمة التراثين اليهودي والمسيحي في بنية الحضارة العربية الإسلامية، واستشهد بأعلام وشواهد تاريخية تُظهر عمق هذا التداخل. وقد عُرِض في نهاية الجلسة شريط وثائقي يقدّم سلسلة من الأنشطة العلمية للمختبر وإصداراته في مجال مقارنة الأديان.

في الجلسة العلمية الأولى قدم الدكتور إدريس اعبيزة مداخلة بعنوان “الترجمات العربية للتوراة – نموذج ترجمة سعديا كؤون الفيومي” عرضاً أكاديمياً موسعاً حول الترجمات العربية للتوراة، مع التركيز على ترجمة العالم اليهودي سعديا كؤون الفيومي، التي تعتبر من أهم الترجمات الكاملة التي وصلتنا. وقد استهل الباحث مداخلته بتحديد المفهوم الدقيق للتوراة، معرفاً بالأسفار الخمسة: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، والتثنية. وتوقف على نحو خاص عند سفر التثنية، ولا سيما الإصحاح 34 الذي يصف غضب الإله على موسى وهارون، مسجلاً غياب تفسير واضح في التوراة لسبب منع موسى من دخول أرض كنعان.

وانتقل بعد ذلك إلى دراسة تاريخ الترجمات، حيث أبرز أن الترجمة اليونانية للتوراة – التي أُنجزت في عهد البطالسة – كانت حدثاً مفصلياً في انتقال النص من بيئته العبرية إلى فضاء لغوي جديد، مؤكداً وجود اختلافات جوهرية بين النصين العبري واليوناني. ومن أبرز هذه الاختلافات إضافة تفاصيل تتعلق بخلق العالم في ستة أيام، مع اختلاف واضح في تناول حرمة اليوم السابع ومكانته في التقاليد اليهودية. واستبعد الباحث أن يكون اليهود أنفسهم هم من أشرف على الترجمة اليونانية، بالنظر إلى حساسية المسائل اللاهوتية التي لا تتوافق مع التصور العبري. وقدّم الدكتور عبيزة نماذج من المخطوطات المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، التي تضم 21 مخطوطاً توراتياً، مؤكداً أن ترجمة سعديا الفيومي تمثل واحدة من أرقى الترجمات العربية، إذ تجمع بين الدقة اللغوية والوعي بالعقائد اليهودية والسياق الإسلامي الذي عاش فيه.

في الجلسة الثانية الدكتورة كريمة نور عيساوي مداخلة بعنوان “موسى بن ميمون بين سلطة الثقافة العربية الإسلامية والخصوصية اليهودية”عرضت فيه رؤية تحليلية متعمقة لشخصية موسى بن ميمون، إحدى أبرز الشخصيات اليهودية في العصور الوسطى الإسلامية. وقسّمت مداخلتها إلى عدة محاور رئيسة: في عرضها السياق التاريخي للأقليات الدينية في الشرق والأندلس أوضحت الباحثة أن الأقليات الدينية – يهوداً ومسيحيين – شكّلت مكوّناً عضوياً في نسيج الحضارة الإسلامية. وقد تبنّى معظم أفراد هذه الأقليات اللغة العربية، لغةً للعلم والتواصل والحياة العامة، واندمجوا في المجتمع الإسلامي ضمن إطار نظام أهل الذمة الذي وفّر لهم حماية قانونية وحرية ممارسة شعائرهم. كما ذكرت أن اليهود في الشرق لم يكونوا دائماً في حالة وئام مع المسيحيين، وأنهم انقسموا إلى تيارات متعددة، أهمها القراؤون والربانيون. أما في الأندلس، فقد شكّلت حارات اليهود مراكزَ ثابتة للاستقرار، وكانت قرطبة على وجه الخصوص قبلة لعلماء اليهود لما توفر فيها من أمن وازدهار ثقافي. وفي المحور الثاني المتعلق بحياة موسى بن ميمون ومساره العلمي تحدثت الباحثة عن نشأته في أسرة عالمة، وكيف تلقى تعليمه في التوراة على يد والده. واهتمامه المبكر بالفلسفة وتأثره بعلوم الكلام الإسلامي، مع تجنّبه النظم الشعري، وإتقانه  العربية كتابةً وخطاباً، واعتمادها لغة رئيسية في التأليف، وهو ما يظهر جلياً في كتابه دلالة الحائرين، الذي يكشف عن عمق اطلاعه على الفلسفة الإسلامية وعلومها. كما تطرقت الباحثة إلى رسالته التي توقّف فيها عند شخصية النبي محمد ﷺ من منظور يهودي يعكس خصوصيته العقدية. وأكدت الدكتورة نور عيساوي أن موسى بن ميمون نموذج لليهودي الذي اندمج بعمق في الثقافة العربية الإسلامية، واستفاد من فضائها الفكري، لكنه ظل متمسكاً بخصوصيته الدينية والقومية، مما يجعل تجربته نموذجاً مركّباً للتفاعل الحضاري.

في الجلسة الثالثة  كان للحضور الكريم موعد مع الدكتور سعيد كفايتي الموسومة ب“لماذا نعيد قراءة التراث اليهودي والمسيحي في فضاء الفكر الإسلامي؟”وقد طرح الدكتور سعيد كفايتي سؤالاً تأسيسياً يتعلق بضرورة إعادة قراءة هذا التراث في سياق الفكر الإسلامي. وأوضح أن نشأة الإسلام في بيئة متعددة الأديان والثقافات تنفي الصورة النمطية التي تختزل فترة ما قبل الإسلام في الجهل والظلامية. فالتعدد الديني لم يكن ظاهرة هامشية، بل كان جزءاً بنيوياً من المجتمع. وتوقف عند الآية القرآنية: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ” (سورة الروم، الآية 22)، باعتبارها تأكيداً على قداسة الاختلاف بوصفه مظهراً من مظاهر الخلق الإلهي. كما أبرز الدكتور كفايتي أهمية نظام أهل الذمة في توفير إطار تشريعي للتعايش الديني، وأشار إلى أن التفاعل بين المسلمين والمسيحيين أسهم في بروز تراث مسيحي عربي غني، مثَّله أعلام مثل عمار البصري وغيرهم.
وتحدث عن الأندلس باعتبارها نموذجاً للتعايش الحضاري الذي سمح بازدهار الثقافة العبرية، وظهور نخبة يهودية تولت مناصب عليا وأسهمت في نقل المعارف من الحضارة الإسلامية إلى الغرب. وخلص إلى أن إعادة قراءة هذا التراث ضرورة علمية لاستعادة الفاعلية العربية في حقل الدراسات الدينية، وكسر احتكار الغرب لهذا المجال، وبناء خطاب أكاديمي عربي رصين في الجامعات.

 أما المداخلة الخامسة فكانت بعنوان “العصر الذهبي اليهودي في ظل الحضارة الإسلامية: حقيقة أم وهم؟”الدكتور التيجاني بولعوالي وتطرق فيها  إلى دراسة مفهوم “العصر الذهبي” في الفكر التاريخي، باعتباره فترة زمنية تتسم بازدهار علمي وثقافي واقتصادي. واستعرض الاستخدامات المفاهيمية للمصطلح في التراث الإغريقي والعالمي. وانتقل إلى دراسة العصر الذهبي اليهودي في الأندلس خلال القرنين العاشر والحادي عشر، وهي المرحلة التي شهدت ذروة الإبداع العلمي والأدبي لدى اليهود تحت الحكم الإسلامي. وقد أجمعت العديد من الدراسات الغربية على اعتبارها أكثر الفترات إشراقاً في تاريخ اليهود الوسيط. وفي محور خاص، تناول الباحث المواقف الفكرية الغربية من هذه الحقبة، مشيراً إلى أن التعايش الديني في ظل الحضارة الإسلامية وفّر بيئة خصبة أسهمت في تحويل هذه المرحلة إلى بؤرة نهضة علمية حقيقية. وخلص إلى أنّ العصر الذهبي اليهودي لم يكن وهماً أو مبالغة، بل حقيقة تاريخية موثقة، تؤكدها النماذج الفكرية والأعلام التي أبدعت داخل البيئة الإسلامية.

وقد شكّلت  الجلسة العلمية، التي انطلقت أشغالها خلال الفترة المسائية، مناسبةً لتعميق النقاش حول القضايا المرتبطة بتفاعل التراثين اليهودي والمسيحي مع المنظومة الحضارية العربية الإسلامية، واستكشاف أوجه التأثير المتبادل، وطرح أسئلة جديدة حول مسارات البحث في هذا المجال وسبل تطويره،  ترأست الجلسة الأستاذة الدكتورة كريمة نور عيساوي( كلية أصول الدين بتطوان)، حيث قدّمت عروضاً تعريفية حول أبرز أعلام الفكر والثقافة المشاركين في الجلسة من أصحاب المداخلات المركزية. كما مهّدت للموضوع بصورة منهجية مشوّقة، قبل أن تفتتح سلسلة المداخلات بورقة علمية قدّمها فضيلة الدكتور صادق الفقيه أمين عام منتدى الفكر العربي  (من الأردن الشقيقة) الموسومة ب:” التراث اليهودي والمسيحي في سياق الحضارة العربية الإسلامية قراءة تحليلية معمّقة تُبرز مركّبات التفاعل التاريخي والفكري بين هذه الموروثات الدينية وبين الفضاء الحضاري الإسلامي. ويشير الباحث إلى أنّ التجربة المسيحية كانت متميّزة عن التجربة اليهودية داخل السياق العربي الإسلامي؛ إذ اتّخذت حضوراً مختلفاً من حيث البنية المؤسسية، ودوْر الجماعات المسيحية في الترجمة والطب والعلوم، إضافة إلى امتدادها الجغرافي والثقافي في مناطق متعدّدة من العالم الإسلامي. وفي المقابل، تميّزت التجربة اليهودية بعمقها في الحقول الفقهية والتجارية والفلسفية، وبقدرتها على الاندماج في نسيج المجتمعات الحضرية مع الحفاظ على خصوصيتها الدينية والثقافية. هذا التباين بين التجربتين، بحسب الدكتور الفقيه، أسهم في تشكيل فسيفساء معرفية وثقافية أثرت الحضارة الإسلامية في مراحل مختلفة.

ويؤكّد أمين عام منتدى الفكر العربي بالأردن على أنّ حضور التراثين اليهودي والمسيحي في البيئة العربية الإسلامية لم يكن مجرّد ظاهرة هامشية، بل كان جزءاً أساسياً من البنية الثقافية التي تشكّلت عبر قرون من الاحتكاك والتبادل العلمي والمعرفي. فقد أسهمت نصوص أهل الكتاب، ونتاجاتهم الفكرية، وممارساتهم الثقافية في إغناء مسارات التفكير الإسلامي، سواء في مجالات التفسير والكلام، أو في المباحث الفلسفية واللغوية، أو في تطوّر بعض العلوم الإنسانية. ويرى الدكتور الفقيه أنّ هذا التفاعل لم يكن دائماً على وتيرة واحدة، بل عرف مراحل من الحوار العميق وأخرى من الجدل والنقد، إلا أنّه ظلّ في مجمله تفاعلاً بنّاءً أنتج مساحات واسعة من المشترك الحضاري. كما يشدّد على أنّ دراسة هذا التراث المشترك تتيح فهماً أدقّ لتاريخ المنطقة، وتكشف عن الطابع التعددي الذي ميّز المجتمعات الإسلامية، وعن قدرتها على استيعاب روافد معرفية ودينية متنوعة. ومن هذا المنطلق، يدعو الباحث إلى اعتماد مقاربة تاريخية–أنثروبولوجية تُسهم في إعادة قراءة هذا الإرث بعيداً عن الأحكام المسبقة، وتعيد إحياء الوعي بقيمة التنوع الثقافي والديني في بناء الحضارة العربية الإسلامية.

وكانت المداخلة الثانية من العراق الشقيق حيث قدّم الدكتور محمد كريم الكوّاز  مداخلة علمية قيّمة حملت عنوان “انتشار كتب الثقافة اليهودية والمسيحية في حقبة التأسيس الإسلامية”، تناول فيها بالدراسة والتحليل حضور النصوص والمصنّفات اليهودية والمسيحية في بدايات التشكّل الثقافي للحضارة الإسلامية. وأبرز الكوّاز أنّ عملية التأسيس المعرفي في الإسلام لم تكن منغلقة على الذات، بل انفتحت—بوعي وبمنهج نقدي—على مصادر معرفية سابقة، شكّلت في مجموعها ما يمكن تسميته بـ «حقبة التأسيس”. وقد شملت هذه الحقبة نصوصاً دينية وتاريخية وفلسفية، تُرجمت أو نوقشت أو تمّت الاستفادة منها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وشدّد الباحث على أنّ الكتب ليست مجرّد مدوّنات معرفية، بل تُعدّ مصادر أساسية لتشكيل هوية وثقافة أتباع الأديان، إذ تحمل في طيّاتها أنماط التفكير، والرؤى العقدية، والتصوّرات الأخلاقية التي تسهم في بناء الوعي الديني والذات الجماعية. ومن هذا المنطلق، فإنّ انتشار الكتب اليهودية والمسيحية في البيئة الإسلامية المبكّرة لم يكن مجرّد تداول للنصوص، بل كان تفاعلاً عميقاً مع مضامينها وما تحمله من رؤى، وهو ما أسهم في تشكيل بعض البنى الفكرية والمعرفية لدى المسلمين الأوائل، سواء عبر النقد والمراجعة، أو عبر التكييف والاستفادة. ويؤكّد الدكتور الكوّاز أنّ دراسة مسارات هذا الانتشار تفتح آفاقاً مهمّة لفهم آليات تشكّل المعرفة الإسلامية، وكيف استطاعت أن تستوعب الروافد الدينية والثقافية المتعدّدة، وتعيد إنتاجها داخل إطارها الحضاري الخاص.

تواصلت المداخلات المقدّمة من خلال ورقتين علميتين متتاليتين قدمهما الباحثان الدكتور محمد عمي، والدكتور الشيخ التيجاني أحمدي ( من موريتانيا الشقيقة)، وقد شكّلتا معًا إضافة نوعية للنقاش العلمي خلال هذا اللقاء. فقد تناولت المداخلة الأولى، التي قدمها الدكتور محمد عمي، موضوع التأثير الإسلامي في الفكر اليهودي خلال العصور الوسطى، وهو موضوع يحظى بأهمية خاصة بالنظر إلى ما عرفته تلك الحقبة من تفاعل حضاري وثقافي بين مختلف المكوّنات الدينية في السياقين المشرقي والأندلسي. وقد أبرز الباحث أن هذا التأثير لم يكن عرضيًا أو هامشيًا، بل امتد ليشمل جوانب متعددة من الفكر والثقافة اليهودية، بدءًا بالمسائل اللاهوتية والفلسفية، وصولًا إلى الطقوس التعبدية ومناهج تفسير النصوص المقدسة. وأوضح في هذا السياق أنّ العديد من المفاهيم المركزية في اللاهوت اليهودي الوسيط قد خضعت لإعادة صياغة أو تطوير على ضوء الحوار الفكري القائم مع علماء الكلام المسلمين، ولا سيما المعتزلة، الذين أثروا بنظرياتهم في قضايا التوحيد والصفات والعدل الإلهي. كما وقف الباحث عند التشابه الملحوظ بين طرق تفسير التوراة وطرق التفسير القرآني، سواء في اعتماد المنهج اللغوي والبلاغي، أو في استثمار أدوات المنطق وعلم الكلام في تحليل النصوص. ولإبراز هذا التفاعل الفكري، استعرض الباحث عددًا من الشخصيات اليهودية التي مثّلت جسورًا بين التراثين، وفي مقدمتهم الحاخام سعيد الفيومي (سعديا غاؤون)، الذي تأثر بالفكر الاعتزالي في رؤيته العقلانية لمسائل العقيدة. كما أشار إلى موسى بن ميمون، الذي يعد من أبرز الفلاسفة اليهود، والذي انعكس تأثره العميق بابن رشد في منهجه العقلي القائم على التوفيق بين الفلسفة والشريعة. وأضاف إلى ذلك موسى  بن عزرا، الذي ظهرت في كتاباته آثار واضحة لرسائل إخوان الصفا وفلسفتهم الأخلاقية والكونية، فضلًا عن إبراهيم بن داود، الذي نهل من الفلسفة المشائية على خطى ابن سينا، مما أسهم في إغناء الفكر الفلسفي اليهودي وإعطائه بعدًا جديدًا. وبذلك خلصت المداخلة إلى أنّ العلاقات الفكرية بين المسلمين واليهود في العصور الوسطى كانت أكثر عمقًا واتساعًا مما هو متداول عادة، وأنّ التأثير الإسلامي شكّل رافدًا مهمًا في تشكيل عدد من الاتجاهات الفلسفية واللاهوتية داخل الفكر اليهودي الوسيط.

أما المداخلة الثانية فقد ركّز الباحث الشيخ التجاني أحمدي على إبراز نماذج متعدّدة من مظاهر التسامح التي جسّدها المسلمون تجاه أهل الكتاب في الأندلس، مسلّطةً الضوء على خصوصية النموذج الأندلسي الذي اتسم بقدر كبير من الانفتاح والمرونة الاجتماعية والدينية. وقد أوضحت المداخلة أن المجتمع الأندلسي كان فضاءً تعدديًا حقيقيًا تعايشت فيه مختلف الطوائف الدينية—من مسلمين ومسيحيين ويهود—في إطار من الاحترام المتبادل، حيث استطاع أهل الكتاب الحفاظ على هوياتهم الدينية والثقافية، وممارسة شعائرهم  وطقوسهم في كنائسهم وبيعهم دون تضييق أو إكراه.

كما تناول الشيخ التجاني بالتفصيل النظم القانونية والإدارية التي كانت تنظّم علاقة أهل الكتاب بالسلطات الإسلامية، مسلّطة الضوء على استقلال مجالسهم القضائية الداخلية في البتّ في النزاعات الخاصة بهم، وفقًا لأعرافهم الدينية وتشريعاتهم الخاصة. وقد تم التأكيد على أن هذا التنظيم كان يعكس درجة عالية  من التعايش الحضاري، ويُبرز قدرة المجتمع الأندلسي على احتضان التنوّع الديني ضمن إطار من العدالة الاجتماعية وضبط العلاقات بين مختلف الفئات. وفي ختام المداخلة، تم التوقف عند عدد من الأمثلة التاريخية التي تُجسّد واقع هذا التعايش، مبيّنةً كيف أن المناخ الثقافي في الأندلس أتاح لأهل الكتاب الإسهام في الحياة الفكرية والعلمية، وأن هذا التفاعل البنّاء شكّل أحد أبرز ملامح الازدهار الحضاري في تلك الفترة.

في إطار التكوين المتميز الذي يقدّمه فريق البحث في تاريخ الأديان والعلوم الاجتماعية التابع لـمختبر الأبحاث والدراسات الثقافية والاجتماعية، تم تخصيص سلسلة من المداخلات العلمية لفائدة الطلبة الباحثين، انسجامًا مع موضوع اللقاء التواصلي وأهدافه المعرفية. وقد افتُتحت مشاركة الطلبة الباحثين بمداخلة موسومة بـ “أعلام الفكر اليهودي وتأثيرهم في التراث الإسلامي: إسحاق الفاسي نموذجًا”للطالب الباحث زكرياء المحمي،حيث أبرز الباحثُ الدورَ البارز الذي اضطلع به علماء اليهود في إثراء الثقافة والحضارة الإسلامية، عامة، وفي الغرب الإسلامي على وجه الخصوص. وقد ركّزت المداخلة على تأثير الحاخام إسحاق الفاسي، مبرزةً المكانة العلمية الرفيعة التي حظي بها داخل الفضاء الثقافي الإسلامي، لِما عرف به من عمقٍ معرفي وانفتاحٍ على محيطه العلمي. فقد شكّل إسحاق

 الفاسي أحد أبرز الوجوه اليهودية التي أسهمت في ترسيخ تقاليد الحوار والتثاقف بين علماء الديانات في الغرب الإسلامي، حيث مكّنه إتقانه الرفيع للغة العربية من الاندماج الفاعل في الأوساط الفكرية الإسلامية، والاطلاع المباشر على مؤلفات علماء الكلام والفقهاء والفلاسفة المسلمين. وأوضحت المداخلة أن هذا التأثير لم يكن مجرد تفاعل جزئي أو عابر، بل شكّل جسرًا معرفيًا ساهم في توسيع نطاق التواصل بين العلماء المسلمين واليهود، وأسهم في بناء فضاء فكري مشترك يقوم على الاحترام المتبادل وتبادل الخبرات. وبذلك أصبح إسحاق الفاسي مثالًا لنموذج المثقف اليهودي الذي استطاع أن يستثمر البيئة العلمية الخصبة في الغرب الإسلامي ليقدّم إسهامًا نوعيًا في التراثين: اليهودي والإسلامي على حد سواء. واختُتمت أشغال الفترة المسائية بورقة علمية قدّمها الطالب الباحث جمال الصوالحين، بعنوان: “أبراهام بن عزرا: حياته، ومؤلفاته، وإسهامه في نقل نقد النص المقدّس إلى أوروبا الغربية”. وقد شكّلت هذه المداخلة محطة علمية مهمّة، لما تضمنته من قراءة معمّقة في شخصية بن عزرا وأثره في تاريخ الفكر اليهودي والأوروبي على السواء.

استهلّ الباحث عرضه بتقديم لمحة شاملة عن السيرة الفكرية لابن عزرا، مبرزًا غزارة إنتاجه وتنوّع اهتماماته التي شملت التفسير والفلسفة، واللغة والرياضيات والفلك. كما أشار إلى أن ابن عزرا يعدّ من أبرز الشخصيات التي مثّلت جسراً معرفيًا بين الشرق والغرب، وأن مشروعه الفكري تميّز بقدرة لافتة على الاستفادة من تراكمات الثقافة الإسلامية، مع دمجها في السياق العبري بمنهج نقدي واعٍ. وفي هذا الإطار، أوضح الباحث أن ابن عزرا قدّم نموذجًا فريدًا يجمع بين عمق التحليل اللغوي الذي  يشبه منهج ابن حزم في دقته وتمسكه بظاهر النص، وبين الجرأة التأويلية والنزعة العقلانية التي ستجد امتدادها لاحقًا في فكر سبينوزا. هذا المزج بين المنهجين منح ابن عزرا خصوصية في مقاربته لنصوص التوراة، وساهم في إرساء اللبنات الأولى لنقد النص المقدس في الغرب اللاتيني.

كما بيّنت المداخلة أن مسار ابن عزرا الجغرافي كان ذا أثر مباشر في تشكيل رؤيته الفكرية؛ فقد تنقّل بين طليطلة وعدد من مدن الأندلس، قبل أن ينتقل إلى إيطاليا ومنها إلى إنجلترا وفرنسا، وهو ما مكّنه من الاحتكاك المباشر بعلماء ومسارات معرفية متنوعة. وقد أتاحت له هذه الرحلات نشر أفكاره وترجمة بعض أعماله أو التعريف بها في الأوساط الأوروبية، الأمر الذي أسهم في انتقال تقنيات التحليل اللغوي والنقد النصي إلى مدارس التفسير في الغرب خلال القرون الوسطى المتأخرة. وفي الختام، أكّد الباحث أن إنتاجات ابن عزرا تكشف بجلاء عن تأثره العميق بالثقافة العربية الإسلامية، سواء على مستوى المصطلح أو المنهج أو الآفاق الفلسفية، وأن هذا التفاعل الثقافي جعل من ابن عزرا إحدى الشخصيات المركزية في تاريخ التبادل الفكري بين الحضارات، خصوصًا في ما يتعلق ببدايات تشكّل النقد الكتابي في أوروبا الغربية.

مقالات ذات صلة