القراءة وتشييد الوعي.. دراسات في ثلاثة أعمال مغربية
متابعة: حنان النبلي وسارة الأحمر
نظّم مختبر السرديات والخطابات الثقافية بالدار البيضاء، لقاءه الأدبي الجديد، الذي انعقد مساء السبت 1 نونبر 2025 بفضاء الحرية بعين الشق، بتنسيق مع مؤسسة الأعمال الاجتماعية للتعليم، تحت عنوان: «القراءة وتشكيل الوعي»، انطلاقا من أهمية القراءة بوصفها فعلا مؤسِّسا للوعي ومدخلا لتوسيع أفق الإنسان في فهم ذاته والعالم من حوله. وقد تميز بحضور ثلة من الكتاب والنقاد والباحثين والطلبة، إلى جانب المهتمين بالشأن الثقافي والإبداعي.
جاء هذا اللقاء الثقافي ليؤكد حضور مختبر السرديات المتواصل في صلب المشروع الثقافي والنقدي، وليبرهن أن القراءة لحظة استنارةٍ تُعيد للوعي دوره في مساءلة النصوص والواقع معا، فهي ليست عملية تلقٍّ سلبية، بل ممارسة نقدية تُعيد ترتيب علاقتنا بالمعرفة والعالم، وتفتح أمامنا إمكانات جديدة للفهم والإبداع وخلق المعنى.
أدار اللقاء الكاتب والفنان التشكيلي نور الدين حنيف أبو شامة، الذي تناول في كلمته أهمية هذه اللقاءات لما توفره من فضاءات تفاعلية وفرص لتعميق وعي القارئ، وما تمنحه من دور في التشريح النقدي للنصوص. وتطرق إلى المؤلفات الأدبية محور الجلسة، والتي تنتمي إلى أجناس مختلفة: الرواية، والقصة، والمحكي. وأكد أن الاحتفاء بالإبداع ليس مجاملة أو ترفًا فكريًا، بل هو فعل وعي وإسهام في بناء الإنسان عبر القراءة والتأمل الجمالي.
وأوضح المتحدث أن اللقاء يكرّس لحظة احتفاء بثلاث تجارب سردية مغربية رسخت حضورها في المشهد الأدبي، هي: المجموعة القصصية “ريتول” لعبد الكبير الشرقاوي، ورواية “يوبا أعراب” لجمال بندحمان، ومحكيات “هناك.. تُرجّني أوتار المكان” للمحجوب عرفاوي، مشيرا إلى أن كلّ عملٍ منها يفتح أفقا مختلفا في سؤال العتبات والمرجعي والمتخيل والواقع وإعادة تشكيل الوعي الجمالي والفكري.
الهوية المغربية الهجينة في رواية “يوبا أعراب”
تناول الباحث عبد الجليل الشافعي مداخلته الموسومة بـ: “الهوية المغربية الهجينة: الهجنة بوصفها تكاملاً في رواية يوبا أعراب”، مبرزا أنه اختار التركيز على الهوية المغربية من منطلق فرضية ترى أن الرواية تعرضها بهوية هجينة، مختلطة، غير صافية، وفي أحيان عديدة متنافرة.
وتساءل الباحث عن تجليات هذه الهجنة الهوياتية، والرمزية التي تشير إليها، وما إذا كانت هذه السمات تُعتبر سلبيا أم إيجابيا، وما مقصدية النص الكبرى. كما تطرق الشافعي إلى تجليات الهوية العربية أو المشرقية، والهوية الأمازيغية، والهوية البدوية القبلية، والهوية الصحراوية، والهوية الأندلسية داخل العمل الروائي، مؤكّدًا أن الرواية تشكل حيزًا غنيًا للتفاعل بين مختلف هذه الهويات.
وأشار الباحث، استنادا إلى الدلالات اللغوية والاصطلاحية والفلسفية، إلى أن مفهوم الهوية يتصل بالنفس البشرية ومكوناتها، وبالمعنى العميق وغير المرئي لهذه النفس، فهو “المعنى الغائر، لكنه المؤثر في بنية الإنسان الذهنية والجسدية والوجدانية، والمتحكم، على نحو متين، فيما يفعل أو لا يفعل”.
وأضاف الشافعي: “حين نطالع رواية يوبا أعراب، نكتشف أنها منشغلة بالوطن والمجتمع والتاريخ والشعب، وهي بذلك رواية تنهل من المعيش اليومي والروتيني أحيانًا، محاولة بذلك أن تقول لنا المجتمع الذي أنتجها، والذي تحاول أن تساهم في إنتاجه. فهي تعود إلى التاريخ وتضارع الحاضر من أجل استشراف المستقبل. ولأنها كذلك، فهي مرآة عاكسة للمجتمع المغربي، وهذا الانعكاس المرآوي يوضح أن هويتنا هجينة. وبقدر ما تحمل هذه الهجنة إمكانية التشظي والتنافر، فإنها تحمل في الوقت ذاته إمكانية التكامل والتظافر”.
تجليات الفضاء في محكيات “هناك..ترجني أوتار المكان”
أما الباحثة حنان النبلي، فقد سلطت الضوء في مداخلتها على “تجليات الفضاء في محكيات “هناك.. ترجّني أوتار المكان” للمحجوب عرفاوي، موضحة أن الفضاء أحد المكونات المركزية لبنية النص السردي، إذ يؤطر المادة الحكائية ويحدد دينامية الشخصيات إلى جانب الزمان، ضمن ما يُعرف بالـكرونوتوب بحسب ميخائيل باختين.
أبرزت الباحثة دلالات الفضاء في ذاكرة الإنسان ووجدانه، من خلال الفضاءات المفتوحة كالقرية، والأسواق، والمنزل الطيني، وأرض المهجر (إسبانيا وإيطاليا)، أو الفضاءات المغلقة مثل الكتّاب والمدرسة، فضلاً عن الفضاءات الفرجوية والفنية كالأعراس وحضور فن العيطة صوت البادية وخزان الذاكرة الشعبي والحلقة والفروسية، وفضاءات الفقد والمراثي.
وقالت النبلي: “تأخذنا عربة الحكي إلى منطقة بني عمير في إقليم الفقيه بن صالح، حيث يستعيد السارد ذاكرته الطفولية في الكتاب والمدرسة والتعليم الإعدادي والثانوي، ثم ينتقل بنا إلى فضاءات تتفاعل فيها شخصيات القرية ومدينة الفقيه بن صالح، مع التركيز على الأعراس وفن العيطة وخزان الذاكرة الشعبية، ورصد التحولات التي طرأت على المكان بفعل الزمن واللغات الأجنبية مثل الإيطالية والإسبانية نتيجة الهجرة”.
وأوضحت أن الفضاء في هذا العمل يُعاد بناؤه بوصفه ذاكرة سردية ومخزونًا للهوية المغربية، مشيرة إلى أن المحكيات تتجاوز الانغماس في الذات والهموم الفردية لتفتح آفاقًا رحبة تتناول قضايا المجتمع. وأكدت اقتباسًا عن عرفاوي قوله: “حاولت أن ألتفت إلى ذاكرة المكان في البادية وأسقط الضوء عليها، هاجسي كان أن تتعرف الأجيال على أدب البادية. هذا البوح لم يكن ممكنًا لو لم يكن يسكنني المكان، فالكتاب نافذة على المكان الذي ولدت وترعرت فيه وسيظل حاضرًا دومًا”.
الشخصيات القصصية بين الوحشة والوحشية في “ريتول”
وفي ورقتها الموسومة بـ: “ريتول لعبد الكبير الشرقاوي: شخصيات بين الوحشة والوحشية”، أشارت الناقدة سلمى براهمة إلى التنوع والتمايز البنائي في المجموعة القصصية “ريتول”، التي تضم خمس قصص، مشيرة إلى أن قصة “ريتول” تشغل الحيز الأكبر بما يقارب خمسين صفحة، ما يفرض اعتماد عدد من التقنيات المتعلقة بالتعاقب والحبكة.
ولفتت براهمة إلى تنوع ضمائر الحكي بين المتكلم والغائب، وتباين اللغة والأسلوب والحبكة بين القصص، فالقاص لم يعتمد خطا كتابيا محددا. إذ نجد في قصة “ريتول” يطغى الطابع التقليدي، حيث تتطور الأحداث من مقدمات إلى تعليلات ثم مفاجآت وصولًا إلى النهاية، بينما تستخدم القصص الأخرى التقنيات الحديثة والقصة التجريبية، كما يظهر ذلك في قصة “مرجومة”.
توقفت الناقدة عند عنوان “ريتول”، الذي يحيل إلى كلمة دارجة مغربية تحمل دلالات الفوضى، الهمجية، والغوغائية؛ وإلى لحظات يعود فيها الإنسان إلى أصله البدائي.
أما الشخصيات، فقد وصفتها براهمة بأنها تنسحق تحت وطأة القهر، وهي شخصيات لا تدعي البطولة، بل تكشف عن النقص الإنساني غير القابل للاكتمال، معاناة الوحشة، الوحشية، الاغتراب، الانسحاق، والصدام المأساوي. وتمثل هذه الشخصيات مزيجًا بين النمط التقليدي الذي يكرس الثبات، وآخر حديث يسعى للتحرر والتطور.
صدى الثقافة والهوية المغربية
في كلمته، تساءل الكاتب والناقد المغربي جمال بندحمان عن أهمية وجدوى كتابة الرواية، ليجيب بأن الرواية جنس منفتح يتيح للمبدع الحرية في الانفتاح والتحرر، مشيرًا إلى انتمائه إلى منطقة الشاوية التي تتشبع روحها بالحرية.
وأوضح أن هذا النمط من الكتابة يتناغم مع طبيعة الرواية القادرة على تقديم إبدالات جديدة لمعالجة الإشكالات المطروحة. كما أشار إلى أن الرواية يجب أن تحقق المتعة والفائدة، موضحًا أن المغرب بحاجة إلى روايات ذات مرجعية ثقافية، وقد أسماها رواية المشاريع التي تعالج قضايا تتطلب الجرأة والشجاعة دون أن تُخلّ بمتطلبات العمل الروائي.
وقد دافع الكاتب عن أطروحة تمثل التاريخ معتبرا أن الرواية تستفيد من المضمر في التاريخ، فالمؤرخ يبحث عن المطابقة في حين أن المبدع يبحث عن الحقيقة التمثيلية، ما يجعل الرواية وسيلة لإعادة تصور الواقع عبر التجربة السردية، مشيراً إلى أن رواية “يوبا أعراب” هي حكاية وخطاب”.



