“المدرسة والذكاء الاصطناعي: من تلقين الحروف إلى هندسة العقول”

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
في خضم التحولات الرقمية الكبرى التي تجتاح عالمنا، يبرز الذكاء الاصطناعي كفاعل جديد يعيد تشكيل كافة مجالات الحياة، وعلى رأسها المدرسة، وإذا كانت هذه الأخيرة، خصوصاً في المرحلة الابتدائية، تُعد الحاضنة الأولى لبناء شخصية الطفل ومهاراته الإدراكية والاجتماعية، فإن دخول الذكاء الاصطناعي على خط التعليم يطرح سؤالاً جوهرياً: هل نحن بصدد تطوير المدرسة أم إعادة هندستها من الأساس؟
لقد بدأت آثار الذكاء الاصطناعي تظهر بوضوح في قاعات الدرس: تطبيقات تعليمية تولّد تمارين مخصصة حسب مستوى كل تلميذ، روبوتات تفاعلية تقوم بدور المساعد التربوي، برمجيات قادرة على تحليل أنماط التفكير عند الأطفال وتوجيههم نحو طرائق تعلّم أنسب، لكن خلف هذه التطورات، تتولد سلسلة من الأسئلة العميقة التي لا بد أن نطرحها بتأنٍّ ووعي.
أول هذه الأسئلة: هل يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يحلّ محل الذكاء الإنساني في التربية؟ فالمدرسة الابتدائية ليست مجرد فضاء لاكتساب المهارات، بل هي مجال للتنشئة الاجتماعية، لغرس القيم، لبناء علاقة وجدانية مع المعلّم. فهل يستطيع الخوارزمي أن ينقل الدفء العاطفي الذي يحتاجه الطفل في لحظات فشله؟ وهل يمكن للآلة أن تُعَلِّم الحنان والضمير؟
ثانيًا، ما مستقبل العلاقة بين المعلّم والمتعلّم في ظل توسّع أدوات الذكاء الاصطناعي؟ هل سنشهد “معلّمين رقميين” يهمّشون دور الإنسان التربوي؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيكون بمثابة أداة تعزز قدرات المعلم وتحرره من عبء التكرار نحو أفق الإبداع التربوي؟ إن الخطر كل الخطر أن ننساق إلى نموذج يُختزل فيه التعليم في “كفاءة الأداء” و”المردودية الرقمية” متناسين أن التربية ليست صناعة، بل بناء وجودي للذات.
كما أن إدماج الذكاء الاصطناعي يطرح تحديات مرتبطة بعدالة النفاذ الرقمي: هل نملك البنية التحتية والتكوين البيداغوجي الكافي لإدماج هذه التكنولوجيات بشكل منصف؟ أم أن هناك خطر تعميق الفوارق بين مدارس تملك التكنولوجيا ومدارس بالكاد تملك الطباشير؟ العدالة التربوية تقتضي أن تكون الرقمنة وسيلة للإنصاف لا ذريعة لإقصاء غير القادرين على مجاراتها.
ويبقى السؤال الأخطر: كيف نضمن أن الذكاء الاصطناعي سيخدم الإنسان لا العكس؟ في عالم البيانات الضخمة وخوارزميات التصنيف، يمكن بسهولة أن يتحول المتعلّم إلى مجرد رقم ضمن نمط تعلّم مهيكل مسبقاً، مما يهدد استقلاليته الفكرية، وحريته في الخطأ والتجريب، وهي مقومات أساسية لأي تعلم حقيقي.
الذكاء الاصطناعي فرصة هائلة لإصلاح أعطاب المدرسة التقليدية، لكنه أيضًا تحدٍّ فلسفي وقيمي عميق.
فالمطلوب اليوم ليس فقط تطوير أدوات رقمية، بل إعادة طرح السؤال التربوي الجوهري: أي إنسان نريد أن نُخرج من المدرسة؟ وهل نُعدّه لعالم تتحكم فيه الآلة، أم نُعدّه ليكون سيد هذه الآلة وناقدًا لها؟
ليست المدرسة اليوم في حاجة إلى مزيد من “التحيين الرقمي” فقط، بل إلى يقظة فكرية تجعل من الذكاء الاصطناعي خادمًا للمشروع التربوي الإنساني، لا مهيمناً عليه. فكل طفرة تكنولوجية لا تُرافقها رؤية قيمية وتربوية، تتحول من أداة للتمكين إلى وسيلة للهيمنة.
لقد آن أوان أن نسائل الذكاء الاصطناعي من موقع الإنسان لا من موقع الإعجاب الأعمى. وأن نُعيد تعريف دور المدرسة في زمن الشاشات لا كفضاء لتكديس المعرفة، بل كمساحة لتربية الذكاء النقدي، وغرس روح التساؤل، وبناء القيم. فالمدرسة ليست ورشة لإنتاج متفوقين في المسابقات الرقمية، بل معمل لتكوين مواطنين أحرار، يفكرون… ويشكون… ويغيرون.