تفكيك وهم التحكم بالمكر في حركة التحرر الإنساني من العبوديات: تأملات سننية من وحي الآية 30 من سورة الأنفال
د. الحبيب الشوباني
أولًا: مدخل منهجي
خاطب الوحيُ القرآنيُّ صُنّاعَ المكر، كما خاطب المستهدفين به على السواء، في كل زمان ومكان، من خلال الآية الثلاثين من سورة الأنفال، حيث يقول سبحانه:
﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).
هذا الخطاب الإلهي يُفهم ضمن نسق قرآني عام يؤسس لما يجوز تسميته ـ من منظور تحليلي ـ بـ “قانون المكر الإلهي” ، لا باعتباره توصيفًا بلاغيًا أو تقريرًا عقديًا مجردًا عن صيرورة التاريخ فحسب، بل بوصفه سُنّة تاريخية–كونية تحكم العلاقة بين المكر البشري المحدود، والإرادة الإلهية المتعالية المحيطة، لا سيما في سياقات الصراع بين الحق والباطل، حين تُسخَّر القوة الغاشمة في مشاريع الهيمنة واستدامة استعباد البشر.
ومن ثمّ، لا يُقارب هذا المفهوم ـ منهجيًا ـ في إطار وعظي تحذيري، أو في أفق إيمان غيبي منفصل عن حركة التاريخ وقوانين التدافع الإنساني، بل بوصفه أداة تحليلية سننية تُسهم في تفكيك وهم التحكم المطلق في مصير المستضعفين، ذلك الوهم الملازم لمشاريع الهيمنة الاستكبارية التي تتوسل بالمكر، باعتباره عقلًا استراتيجيًا حاسمًا، وأداة يُتوهم أنها قادرة على ضبط مآلات الصراع لصالح الماكرين.
ثانيًا: في دلالة المكر الإلهي عند كبار المفسرين
يرى كبار مفسري القرآن على أن نسبة المكر إلى الله تعالى لا تُفهم على معناها البشري القائم على الخديعة والمراوغة، وإنما تُحمَل على معنى المقابلة العادلة، وإبطال التدبير السيئ بتدبير أعلى إحاطة وأعمق علمًا بالمآلات.
فقد ذهب الطبري إلى أن مكر الله يتمثل في تدبيره الذي يصرف مكر الخصوم عن غاياته، ويفشله من حيث لا يحتسبون. وربط الزمخشري هذا المفهوم بمنطق الاستدراج، حيث يُترك الفاعل الماكر في وهم السيطرة والاطمئنان إلى نجاح تدبيره، حتى يبلغ أقصى درجات الغفلة، فتقع لحظة الانكشاف. وبيّن الرازي أن وصف الله تعالى بـ “خير الماكرين” لا يدل على مفاضلة أخلاقية، بل على كمال العلم بالمآلات؛ إذ إن المكر البشري يظل محكومًا بالجزئيات والظنون، في حين يقوم المكر الإلهي على الإحاطة الشاملة. أما القرطبي فقد شدد على أن هذا المكر لا يكون ابتداءً، وإنما يأتي في سياق الجزاء العادل، مندرجًا ضمن منطق العدل الإلهي، لا في باب الخديعة أو الظلم.
ثالثًا: من الفهم التفسيري إلى استنباط القانون السنني
يُفضي هذا التفسير التراثي إلى تجاوز القراءة السكونية أو الأخلاقية الفردية لمفهوم المكر، والانتقال به إلى مستوى القانون السنني الذي يشتغل داخل التاريخ وصراعاته، لا خارجه.
فالمكر الإلهي لا يعطل الأسباب، ولا يلغي الفعل البشري، بل يعيد توجيه مساراته ضمن منظومة القيم الإلهية الكونية الحاكمة، بحيث ينقلب المكر ـ في مآلاته ـ على أصحابه. ومن ثمّ، فإن تراكم ما يبدو “نجاحات تكتيكية” قائمة على التدبير بالمكر الخفي، حين تنفصل عن قيمة العدل باعتبارها جوهرًا ناظمًا للسنن، يتحول ـ على المدى المتوسط والطويل ـ إلى عامل هشاشة وتصدع بنيوي داخلي، يُنتج شروط الانكسار والاندثار من داخل المشروع ذاته، وبأدوات مكره.
رابعًا: المكر الإلهي بين اللاهوت وحركة الصراع التاريخي
لا يشتغل قانون المكر الإلهي في فراغ اللاهوت المجرد، ولا في نطاق الفعل الأخلاقي الفردي المعزول ففط، بل يتنزل في قلب الصراع التاريخي البشري، بوصفه آلية كاشفة لا معطِّلة.
فالقرآن لا يُقابل المكر البشري بإلغاء الفعل أو تعليق السنن، بل بإعادة ترتيب العلاقة بين السبب والنتيجة. وبهذا المعنى، لا ينقض المكر الإلهي منطق التاريخ، بل يُعرّي أوهامه، خاصة حين تتحول القدرة على التخطيط الماكر إلى اعتقاد بالتحكم المطلق في مصائر الشعوب المستهدفة به. ويكشف هذا القانون أن التاريخ لا يُدار فقط بمنطق الذكاء والمكر الاستراتيجي، بل بمنطق التوازن الأخلاقي السنني الذي يضبط العلاقة بين القوة والعدالة، وبين العبودية والتوحيد.
خامسًا: المكر بوصفه بنية فكرية مغلقة
حين يتحول المكر من أداة ظرفية أو خطأ في التقدير إلى عقيدة سياسية راسخة تحكم منظومة صناعة القرار، فإنه يُنتج بنية فكرية مغلقة وعمياء، ترى في خداع التفاوض، وتفكيك الخصوم، وتدوير الزمن، وسائل مشروعة في ذاتها، غير خاضعة لأي ضابط قيمي أو التزام أخلاقي.
في هذه الحالة، لا يعود المكر دليل براعة وذكاء، بل مؤشرًا على فقر أخلاقي بنيوي. ووفق قانون المكر الإلهي، تحمل هذه البنية في داخلها بذور فنائها، لأن نجاحها المرحلي يُراكم اختلالات عميقة في التفكير والتقدير والتدبير، ويُنتج فجوات متزايدة بين القوة والشرعية، وبين المصالح والأخلاق، وبين الاستعباد والحرية، وهي فجوات لا يمكن للتخطيط الماكر ـ مهما بلغ تعقيده ـ أن يسدّها.
سادسًا: قانون المكر الإلهي و”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”
في سياق “المسألة اليهودية” كما انتهى بها الحل الصهيوني إلى مأزق وجودي في فلسطين المحتلة، يتجلى المكر بوصفه عنصرًا بنيويًا في تشكل المشروع الصهيوني: من إعادة هندسة الذاكرة اليهودية بالأساطير التلمودية المشيحانية، إلى توظيفها في اختلاق فكرة “الشعب اليهودي”، إلى الاستيطان، إلى تدويل سردية الاضطهاد وإقامة دولة الكيان، إلى تسخير القانون الدولي أداة انتقائية لشرعنة الاحتلال وتمويل الإبادة… إلخ.
غير أن قانون المكر الإلهي، كما يُفهم سننيًا، يسمح بتفكيك هذا المشروع خارج ثنائية التقديس والشيطنة؛ إذ يكشف أن المكر، حين يُؤدلج ويُعزل عن قيم العدل والحق والتوحيد، يتحول من مصدر قوة إلى مصدر إنهاك تاريخي. فالاستيطان، والحروب المتواصلة، والتوسع، والتطبيع، والابتزاز بسردية المظلومية، تُنتج ـ بالضرورة ـ أزمة وجودية داخلية وخارجية، لا يعالجها تدوير المكر، بل يعمّقها داخل حوض حضاري عقائدي ومقاوم بطبيعته، راكم خبرة تاريخية في فنون تحويل عار الإذلال بالغزو، إلى شرف الانبعاث والانتصار بالمقاومة.
سابعًا: نقطة الانكسار وحدود السيطرة بالمكر
يُظهر التاريخ أن لحظة الذروة في مشاريع العلو والإفساد بالمكر غالبًا ما تخفي لحظة الانكسار. فحين تبلغ هذه المشاريع أقصى درجات الثقة بذاتها، وتعجز عن تخيل الفشل، تكون قد دخلت طور الهشاشة القصوى.
ووفق قانون المكر الإلهي، لا تأتي هذه اللحظة بالضرورة في صورة هزيمة عسكرية مباشرة، بل في شكل تآكل أخلاقي ورمزي ومعنوي، يُفضي إلى تحول في الوعي الإنساني العالمي، يفقد معه المشروع قدرته على إقناع ذاته والآخرين بشرعية وجوده، فيغدو عبئًا تاريخيًا وأخلاقيا لا يحتمل، يتلوه تصاعد الطلب والعمل على التخلص منه.
خاتمة
إن قانون المكر الإلهي ، كما يتبدّى في النص القرآني، والتفسير التراثي، والتجربة التاريخية، لا يُقدَّم بوصفه تفسيرًا تبسيطيا للوقائع ولا مخرجًا تبريريًا للفشل، بل إطارًا تحليليًا يكشف حدود الفعل البشري حين ينفصل عن القيم الإلهية الكونية. وفي سياق “المسألة اليهودية” كما جاء بها الحل الصهيوني إلى فلسطين هاربا باليهود من لظى جحيم التعايش المستحيل مع مسيحيي اوروبا، يتيح هذا القانون إعادة قراءة منطق القوة والدهاء خارج سحر النجاح المرحلي، ويؤكد أن التاريخ، مهما طال، لا يستقر على غايات الهروب من المكر البشري بمكر أشد، بل على المآلات التي يقررها سلطان قانون المكر الإلهي ، لأن المكر حين يُطلق بلا ضابط – كما في حالة “الإبادة الجماعية في غزة” – ، فإنه لا يصنع نهاية مفتوحة نحو أفقٍ آمنٍ للماكرين، بل يؤكد سننيا اقتراب لحظة سقوطهم المأساوي المستحق، بالإرادة المتعالية والمحيطة ل”خير الماكرين” ..!
والله المستعان.
5 رجب 1447 هـ
25 دجنبر 2025



